الأربعاء، 20 يناير 2010

قال لقمان الحكيم لإبن أبي نعيم

بقـــــــــلم: مسعود جـــــبارة
*****************
جانفي 2010

نصحتك بالإنتباه الى حالك
قبل انتهاء صحتك و مــالك

و إن أبيت فما أغناك مالك

و صار مع أبي لهب مــآلك

وإن لم يكن صـراطك ســـالكا ** صرتَ لنفسك و لأهلك هالكا
فــسل السبيل الى سلسبيلا ** و إلا ظـل حـالك ظـلاما حــالكا

فلا تكن من حصى و لربه قد عصى ** بل من أثمن الجـواهر إلا أخــالك
فإذا فرغت فانصب و لربك فارغب ** و ليكن نعيم الجنة فــالي و فـالك

أنا مســـــــــلم من وادي السِّـــدر

بقلم: مسعــــــود جبــــــــــارة
جـــــــانفي 2010

أنا مسلم و من جــنوب تـــونس انحــــــدِرُ

حيث أ ُستقبـَلُ كما ليــــلة َتمــامِهِ الـبـَـــدرُ

لكل الأهل هناك مني الإحترام و الـقــــدَرُ

أعودهم إذا أصاب النفسَ الرانُ و الكـــدَرُ

************************


لقد آمنت بالله و بالقضـــاء و القـــــــــدَر ِ

وأقول لا إله إلا الله عــدد الحجر و المــــدر

أن جعل موطني هو قرية وادي السِّـــدر ِ

فيها أستمتع بالــراحة وانشراح الصــــدر

كالصبي في الحضن أو العروس في الخِــدر

و لي أموال أنا مطمئن عليها من الهــــدر

بين العشـــيرة لا أخشى أحدا من الغــــدر

وحسبي الله إن ساءت الأخلاق وأنا لم أدر

السبت، 16 يناير 2010

من وحي زيارات البابا و أوباما لمساجد اسطنبول

بين السماح و عدمه بدخول المساجد (و الأوطان) لغير المسلم

بقلم: مســـعود جبــارة
جويلية 2009

في اسطنبول عشرات المساجد يرجع بناؤها الى القرون الأولى للإمبراطوربة العثمانية التي امتدت من 1453 الى 1923 غير أن أشهرها على الإطلاق ما بناه أو رممه المعماري سنان باشا في السنين الأولى للنصف الثاني للقرن الخامس عشر ميلادي. مساجد شيدت على ربى (هي أقرب الى الجبال) اسطنبول السبعة عندما تدخلها تشم فعلا عبق التاريخ. مباني قد يصل ارتفاع القبة الى 55 مترا و قطرها الى 33 مترا. عدا المآذن الشامخة التي تناطح السحاب.

أهم الجوامع الأثريه التي شيدت في القسطنطينية كما كانت تسمى اسطنبول في عصر الدوله العثمانيه:
1-المبنى الأثري (متحف آيا صوفيا) الذي يرجع بناؤه ككنيسة إلى القرن السادس الميلادي على يد معماري بيزنطي ثم تحول إلى مسجد بعد الفتح العثماني للقسطنطينية ثم إلى متحف عام 1935، وتتعانق النقوش الإسلامية والمسيحية على جدران المتحف بواسطة الفسيفساء التي تم الحفاظ عليها على مر القرون بفضل تغطيتها بالطلاء.
2-مسجد السلطان أحمد المعروف باسم المسجد الأزرق بسبب نقوشه المميزة، على الجدران المغطاة بـ21 ألف قطعة من الفسيفساء على الطراز الأزنيكي (نسبة إلى مدينة أزنيك التركية) مهيمنا عليها اللون الأزرق.

3- مسجد الباشا محمد الصقلي و الذي بناه المعماري سنان بعد أن بنى جامع السلطان أحمد و يقع على جانب الربوة التي عليها المسجد الأزرق و فوق محرابه قطعة صغيرة من الحجر يقال أنها من الحجر الأسود الذي بركن الصفا من الكعبة الشرفة بمكة المكرمة.
4- العديد من المساجد الشاهقة الأخرى و تسمى باسم السلطان الذي بنيت في عهده أو أمر ببنائها كالسلطان بزيد الثاني والسلطان سليم والفاتح و رستم باشا و سليمان القانوني و حرمه روكسانة.
5-جامع باسم الصحابي أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه و به ضريحه و يزوره جموع غفيرة و يقع بمنطقة شعبية خارج أسوار المدينة القديمة.
جدير بالذكر أن في أغلب هذه المساجد، مدارس لتحفيظ القرآن الكريم و بها مبيت داخلي لطلاب العلم.

من أشهر من دخل هذه المساجد الإسطنبولية في الفترة الأخيرة فقط:
1- بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس عشر الذي اتجه الى مكة المكرمة كما يفعل المسلمون في صلاتهم وذلك لدى زيارته مسجد السليمانية الازرق في اسطنبول. وظهر البابا وقد شبك يديه على بطنه كما يفعل المؤمنون في الصلاة وصلى لبضع دقائق.
2- الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي خلع نعليه ودخل المسجد الازرق في إسطنبول وابتسم لرؤية الحسين ثم تجول في ساحة الميدان قبل زيارته متحف آيا صوفيا التاريخي.
3- و غيرهما كثير من رؤساء الدول و كل الشخصيات و الوفود التي تزور المدينة.
4- كما يدخل مساجد اسطنبول يوميا مئات أو قل حتى آلاف من البشر جاءوا من أصقاع الدنيا للسياحة و زيارة المعالم
الأثرية و التعرف على هذا البلد ذي التاريخ الزاهر. ما يلفت النظر هو أن المساجد مفتوحة لكل الناس كبارا و صغارا، من كل الأديان ذكورا و إناثا مع بعض الإجراءات التي هي أقرب للشكلية. قطع من القماش متوفرة في مدخل المسجد لتلتحف بها النساء الكاسيات العاريات من السائحات و المواطنات. يتقدم المسلمون الى النصف الأمامي من الجامع، يصلون النافلة أو الفريضة بينما يحتل الآخرون الفضاء الخلفي من ورائهم يلتقطون الصور التذكارية لبعضهم البعض رجالا و نساءا أمام النقوش و الزخارف أو تحت القباب أو الى جانب المحراب و المنبر. ما أكثر ما ترى داخل المسجد الرجل في تبان و المرأة في لباس السياحة بل قل السباحة، هؤلاء الزوار تراهم أزواجا يمسك الواحد بالآخر أو جماعات يتجاذبون أطراف الحديث وقوفا أو جالسين دون أي مراعاة لحرمة المكان.

موقف آخر و زيارة مختلفة:
كنت في بلد عربي مشرقي قبل أقل من شهر و صلينا العصر جماعة في المسجد و بعد السلام لاحظ المصلون أن شخصا قام يصلي صلاة أخرى بعد أن كان صلى مع الجماعة و قد وضع أمامه قطعة حجر يسجد عليه فسارع الإمام و سحب الحجر من أمامه و قبل أن ينتهى الرجل من صلاته كان قد ارتفع الهرج و المرج و استشاط البعض غضبا منددا بتسلل الشيعة الى مساجد السنة! انتهى الأمر بنهر الرجل و زجره و التأكيد عليه أن لا يعود لصنيعه مرة أخرى رغم أنه يعمل بمؤسسة ملاصقة للمسجد، ثم طرد شر طردة.
تذكرت هذه الحادثة و أنا أخرج من أحد مساجد اسطنبول (السنية) متسللا من بين مجموعات من السائحات من أقصى شرق آسيا (يابانيات الملامح على ما يبدو) في ملابس فاضحة جدا .

عندها لم أتمالك أن تساءلت:
- هل من موقف وسط بين الإفراط و التفريط من السماح بدخول المساجد؟
- أين استقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم نصارى نجران و دعوته لهم للمباهلة؟
- و أين كان يلتقي الوفود و القادمين الى المدينة من الأعراب الوثنيين؟

و أخيرا و ليس آخرا: أين المصلحة و المفسدة في هذه الزيارات ؟ المسألة للنقاش!
--------------------------------------------------
ملاحظة:
أولا وجب أن اوضح أني ما اردت ان ينحصر النقاش حول الجانب الفقهي المحض لارتياد المساجد من غير المسلمين لكني أطرح الاشكال و أوسعه الى دخول الأوطان (او غزوها) السياسي و الأقتصادي و حتى العسكري مع القواعد الاجنبية التي يرخص لها هنا و هناك في البلدان الاسلامية

ثانيا اضافة الى رمزية الدخول هذه ، عمدت الى ابراز الاصناف الثلاثة :
1- البابا (الرمزية الدينية)الذي ريط الاسلام بالعنف و لم يعتذر بعد
2- اوباما (او القوة الغاشمة) الذي يغزو/يحتل/يقتل المسلمين و اراضيهم و مقذساتهم و ينهب ثرواتهم.
3- دخول المرأة الشبه عارية الى اماكن العبادة لحساسيتها الاخلاقية الدينبة و الغريزية المباشرة

ثالثا: طلبنا ان نقول الحق و لو كان مرا او على انفسنا (لا نخشى أي تهم لا بالتمذهب و لا بالموالاة او المحاباة )

مــصطـــاف بــبلد مـصـــطــفى

بقلم: مســــعود جبــــارة
جويلية-2009

(1) مؤتمر
احتضنت عاصمة الإمبراطوريات اسطنبول، المؤتمر التاسع عشر لمجلس الإفتاء الأوروبي بحثا لما استجد من قضايا و دراسة ما يوجد لها في الإسلام من حلول، تحت سامي اشراف الرئيس التركي عبد الله غول. انعقد المؤتمر في رابع الحرم شهر رجب، وافتُتح بكلمة أمام المؤتمرين نيابة عن طيب رجب، رئيس وزراء تركيا المنتخب، كلمة ترحيبة نارية قال عنها الشيخ القرضاوي انها حماسية، و لا عجب.



(2) سفينة
بينما كنا نرحل عن الأناضول و نترك وراءنا الجزء الأسياوي من تركيا و أمتدادته في القارة الأوسع على وجه البسيطة على ظهر سفينتنا السياحية كانت سفينة "روح الإنسانية" لكسر الحصار على غزة تنطلق من ميناء جزيرة قبرص الصغيرة.
في نفس الوقت الذي كنا نؤم الجانب الأوروبي و ما يرمز اليه من فضاء للحرية و الديمقراطية، للرفاه و رغد العيش للإنسان و حتى للحيوان، كانت "روح الإنسانية" تطلب شواطيء فلسطين، آخر أرض محتلة على وجه الأرض، حيث غزة المحاصرة، و أين يتكدس مليون و نصف من البشر في نقطة لا تكاد ترى على الخريطة، يجوَّعون من العدو و الصديق، على مرأى و مسمع من العالم كله، البعيد و القريب.
كنا نتبع خط الطول شمال جنوب في مضيق البسفور و الدردانيل و كذلك فعلت سفينة "روح الإنسانية".
انطلقت تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط بأقصى سرعة، تسابق الزمن بل تسابق العدو الذي يردِّد إنذاراته و تهديداته بالقصف و الإغراق بينما كانت سفينتنا السياحية تبحر بين مواني القارتين, تتبختر و تتهادى بين ضفة و أخرى، لتهدي للمسافرين فرصة الإستمتاع بأجمل المناظر الطبيعية الخلابة.
كانت "روح الإنسانية" محملة بما جادت به أنفس الخيرين من كل جنس ومن كل دين، لكن ركابها من نشطاء غزة الحرة أصبحوا يتوجسون و يترقبون إذ يعلمون أن وراءهم ظالم يأخذ كل سفينة غصبا، بينما كان الركاب هنا يترشفون الشاي أو القهوة التركية و يتبادلون الكامرات لأخذ الصور مع هذا المعْلم التاريخي أو ذاك.

(3) إنقاذ
لاحظ ركاب سفينتنا غريقا ترفعه الأمواج ثم ترمي به الى أسفل. إقتربنا منه أكثر فإذا برجل كان كلما طفا فوق الماء رفع عقيرته بالصياح طلبا للنجدة حتى اجتمعت حوله ثلاث سفن و تم إنقاذه من الهلاك.
بينما كان الركاب هناك يتحدُّون أوامر القراصنة الصهاينة رغم اشهار السلاح و التهديد بالذخيرة الحية و الزوارق الحربية السريعة في مهمة إنسانية نادرة هذه الأيام تضامنا مع غزة ثم يقعون رهائن و مساجين لدى العدو فمن لإنقاذهم و متى إنقاذ كل فلسطين و الفلسطيين الغرقى في الخلافات؟

الجمعة، 15 يناير 2010

قولد ستون هو أنفس الحجر بأيدي الشهداء الأحياء من البشر

بقلم: مســـــــعود جبـــارة
أكتوبر 2009

جاءوا من لبنان على السفن، و استرخوا في تونس الى الملذات و الفنّ. جاءوها مجندين من بيروت، كما ذهب مغاضبا صاحب الحوت، أو كما جاءت عليسة و حنبعل، اللذان استوطنا مقدار جلد وعل. بينما ركب أولائك الى روما وديجون، ركن هؤلاء الى اللهو و المجون، حتى توصل أبناء القردة و الخنازير، الى قتل القائد خليل الوزير.

ثم تركوا بلد الزيتونة و عادوا الى أرض الزيتون، تحت مظلة أسلو و دايتون. أختـُرِقت الثورة، و بانت العورة. استشهد الرمز أبو عمار، و ما زال القاتل يسير بيننا في وضح النهار. ظهر عباس و معه المدعو دحلان، و بدا أمامهما حلان، خيار الإستسلام و المساومة، أو خيارالجهاد و المقاومة. انحازا الى "معسكر السلام"، حبّا للفلس و نجاة للنفس، وليملؤوا في البنوك الحساب، و ليذق الفلسطيني أصناف العذاب. مفاوضات و لقاءات، و ثرثرة كلام، مقابل سراب أوهام وأضغاث أحلام. تسمع فقط جعجعة و لحنا، ولا ترى عجنا و لا طحنا. صمّوا الآذان، عن الحائط و الإستيطان.

بينما تحررت برجالها غزة، و أصبحت رمزا للكرامة و العزة. أسفرت الإنتخابات عن طرد العملاء و الخائنين، و القى العدو القبض على البرلمانيين. ثم شن حربا بمؤازرة المتواطئين، على الأبرياء من المواطنين. فصدر لذلك تقرير قولدستون الشهير، يفضح كل عمل قبيح و شخص حقير. شكل أملا للضحايا، بعد أن كشف الخبايا. لن يفلت المجرمون من العقاب، و كادت أن تدق العديد من الرقاب.
هتف نداء الضمير: يا بومازن، لا يغرنك امتلاء المخازن، زن قبل أن توزن، و حاسب فإنك ستحاسب ! و مع ذلك، رأى أن يعود الى رام الله، و ما رام أن يعود الى الله. فرفض التقرير، تحت التهديد أو بالإغراء أو بالتغرير، لأنه يضربالمصالح، يكشف العورات و يقود الى المسالخ.

فهيّا، أ ُخيّا، إسماعيل هنيّه، اسمعناها عملا ونية، التكبير التكبير، إما الشهادة أو التحرير. دع عنك قوما باعوا الدماء، و لقد عابوها، مذ قوّموها ماء. هلعوا فخرعوا، و بالتنازل ولعوا. هرعوا الى خارطة الطريق، و خَرُّوا على خَراء الصديق. يـَلحـسونه بلـذة، ويـُسْـحـَبون عليه بذلـّة.

يا شباب فتح و الجهاد و حماس، يا خيرة الناس، يا أطهر البشر، وبأيديكم أنفس الحجر، أولاكم مولاكم الريادة، و الشعب القيادة . أمضوا دون فضاضة، واصِلوا الإنتفاضة، تحت راية المقاومة، و الخزي لجرذان المساومة. إن لكم في كل الأرض خلان، لن يتركوكم الى الخذلان، و لا الى من يحاصركم من الجيران.
قريبا ينتهي الماجن و المازن. ينقشع المزن، و ينجلي الحزن، بسراح المسجونين، و بعودة المهجرين. تنجلي إن شاء الله عن القدس الغمة، أو تبرّأ الى الله الذمة. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا، وَنَرَاهُ قَرِيبًا.

لقاء طريف مع مدير التوظيف


بقلم: مســـــعود جبـــارة
أكتوبر 1993

طال إنتظاري، و أنا أرقب عقارب الساعة الحائطية تتقدم بتثاقل، أحصي بدِقة كل دَقة من دقاتها كأنها دوي إنفجار يسري في أعماقي و يتناهى صداه الى مسمعي فيزيد من خفقان قلبي. وكلما علت السنة اللهب من جوفي حتى تكاد تخرج عن سيطرة قوات الدفاع الداخلي، إرتفعت حرارتي و جف الريق في فمي، أهَـلْتُ عليه رشفة من شاي بالحليب أو أتبعته بجرعة ماء بارد فيخبو حريقه الى حين. ثم يتكرر هذا التناغم الرتيب مع كل دَقة. أجتهد في تجاهله، أو أقطعه بزحزحة بسيطة لبدني أو لفتة خفيفة الى هنا أو هناك لا مبرر لها.
مرت ساعة ثم أخرى على الموعد. تلوت فيها ما إستحضرت من الآيات الكريمة و الأدعية المأثورة. سئمت كذلك من إستعراض الشريط و مراجعة العديد من لقطاته.
هو شريط أخرجته للمناسبة، يختزل كل ما تعلمته من سنوات الدراسة البعيدة و ما تراكم لدي بعدها من خبرات من خلال التجربة العملية في الفترة المهنية السابقة التي بلغت أحد عشر عاما كاملة. بذلت عصارة جهدي كي أكتب نصه الحواري و أختار مفرداته بعناية فائقة و أخرجت حلقاته بمشاهدها المثيرة و لقطاتها المؤثرة. غير أني كلما طال الإنتظارو أستعرضتها مجددا، عنَّ لي أن أعيد تصنيفها و ترتيب أولوياتها محاولا تحسين العرض بلغة أنقليزية لم تفتك مكانتها بعد في فصاحتي كضرة ثالثة.

كان النادل يرقبني من بعيد حتى يقدم لي كوبا آخر كلما رأى أني أجهزت على آخر جرعة فيه. أصر على ألا يتوقف عن تقديم القهوة حتى أهزَّ الكأس بدل الرأس. كان آسياويا وديعا، أسمر البشرة يميل الى الزرقة. فك أكثر من إرتباط كان في ذهني، أولها بين اللون الإفريقي و الشعر المجعد و ثانيها لما يهز رأسه يمنة و يسرة ليومىء بالموافقة!. كان لا يصرِّف فعلا من لغة الضاد و هو على إستعداد لفعل كل الأضداد.

حسب برنامج المقابلات الذي أعد سلفا، سيكون أول لقاء لي مع كبير مشرفي التوظيف و هو في الأغلب سيكون أشقر نظيف. لذلك كم مرة وقفت أمام المرآة، أستبق ما هو آت، أكرر جملا كنت قد جمعتها في قوالب لغوية جاهزة من مصادر مختلفة و كذلك من بعض الأصدقاء تظهر طريقة الإنقليز في التأدب مع الغرباء ليظهروا خاصة حرارة الإستقبال أو إلقاء التحية و كيفية ردها في الحال.

و أخيرا هلَّ ركب مديرالدائرة بلباس المواطنين الأبيض الناصع و ترجل من سيارة سوداء فاهرة. أسرع النادل يفتح له الباب و يحمل عنه حقيبته، بينما وقفت شقراء تستقبله بابتسامة عريضة ثم تختفي وراءه و في يدها ملف سميك لتعود بعد برهة ترجوني بالتفضل بالدخول.

أدخلني مبتسما إلى مكتبه الفسيح و أعتذر بأدب عن طول التأخير. كان لا يزال يفرك عينيه و قد بدا على محياه الأرق و الإرهاق. و بعد المجاملات الضرورية التي تخللها تقديم شاي خفيف الحمرة و كثير السكر، بدأ يسرد المشاق التي واجهته. لقد وصل لتوه من رحلة عمل قادته إلى أوروبا ثم أمريكا.
غرق الرجل في تفاصيل الأحداث و كأنه يتلذذ بمتاعب الأسفار، و يبتهج بالتطواف في بلاد العم سام، فيسرد آلام الغربة و فراق الأهل كما نردد صباحا كوابيس الليلة الماضية.
كنت أسايره ظاهرا و أعالج بعض الإرتباك في داخلي، أحاول جاهدا إلجام مفعول الأدرينالين اللعين على مشاعري. أظهر رباطة الجأش و أنتصر الى الثقة بالنفس على أي شعور سلبي ضعيف.

لن أنسى تلك المجاملات اللطيفة من محدثي و التي انشرح لها صدري و هو يصف رحلته عبر الأطلسي و يروي ما عايش من طرائف. تبادلنا الملاحظات خاصة و أني فد كنت خضت التجربة نفسها قبله بشهور قليلة فقط. فكان ذلك مدخلا مناسبا كي تنحل عقدي و ينطلق لساني.
توسع الحديث الى مختلف الشجون و أهم ما أسر إلي هو إستغرابه من جهل الأمريكيين لجغرافية المنطقة بأسرها و تركيبتها الجيوسياسية خاصة في زمن ما بعد غزو العراق للكويت و الحروب التي تلته رغم الإهتمام الإعلامي الذي حظيت به المنطقة. فلا هم سمعوا بمؤسسة النفط التي يعمل بها رغم شهرتها و لا حتى بالإمارة-الدولة التي يحمل جنسيتها. لا يعرفون موقعها على الخريطة الا عندما يحدد بالجارة الكبرى أو بالخليج العربي لا عفوا بل الفارسي.
علق مازحا علينا أن نقوم بالإعلانات المدفوعة الأجر للتعريف بالبلاد على طريقة المشروبات الغازية و المربى و نحوهما.!!!

ذنْــب بمائة الف صلاة (*)


بقلم: مســــعود جبـــارة
ديسمبر 1998

إنطلق بسيارته صباح يوم الخميس، ومعه كل أفراد عائلته، من إحدى الحواضر الخليجبة الى مدينة الخبر بشرق الجزيرة العربية، و منها جوا الى مطار جدة في غربها، ثم استأجرسيارة الى مكة المكرمة، محرما لأداء العمرة في شهر الصيام.
مرت الرحلة بسلام و بدون مفاجآت. وصل الى الحرم المكي وأقام بأحد الفنادق و أتم على خير مناسكه رغم الزحام الشديد الذي يشهده الحرم نهاية كل أسبوع. حدث عياله أن عمرة في رمضان تعدل حجة مع الرسول الكريم. شعر الجميع بارتياح لا مثيل له و حضروا صلاة الجمعة بالمسجد الحرام.
جاء صباح السبت، جهز نفسه لسفر العودة. ارتدى لباسه التقليدي المميز. إستعد للإنطلاق على الساعة التاسعة صباحا. اتفق مع سائق أجرة ليوصله الى مطار جدة قبل الظهر كي يستقل رحلة الثانية ظهرا المتجهة الى الخبر.
دفع معلوم الإقامة و طلب من مسؤول الإستقبال بالفندق استرجاع الجوازات التي كان تركها أمانة لدى المحاسب. جلس ينتظر عودة هذا الأخير الذي كان قد خرج لقضاء بعض شؤونه و تأخر بعض الشىء . جال ببصره في أنحاء القاعة الفسيحة و توقف عند لوحة كبيرة كتب عليها ".. لا رفث و لا فسوق و لا جدال…" ..
طال الإنتظارفتكررت الاستفسارات والمطالبات حتى كادت تتحول الى احتجاجات و انخرط فيها السائق أيضا. علت الأصوات و كاد البعض يفقد صوابه. إذ لا جواز للسفر بدون جواز السفر. بضاعة كثرعليها الطلب في هذا الزمن و قل العرض. ارتفع اللغط كلما تذكر ارتفاع الثمن و لا أحد تذكر أن يقول: "اللهم إني صائم".
أشارت عقارب الساعة الى الحادية عشر و النصف صباحا عندما تحرك الركب بأعصاب متوترة. ركب الأب في المقعد الأمامي الأيمن الى جوار السائق بعد أن استلم الظرف الذي به كل الجوازات و وضعه في جيب الباب الذي بجانبه. رغم السرعة الجنونية، لم تصل السيارة الى المطار إلا قبل موعد الرحلة بساعة و نيف. أسرع الجميع صوب قاعة الرحيل يجرّون الحقائب المثقلة بالهدايا أو يحملونها على ظهورهم، بينما انشغل رب العائلة بعد دفع الأجرة، بحمل ما ثقل و زنه من الأمتعة بيد و باليد الأخرى وعاء به ماء زمزم.
أمام شبابيك الشرطة، تذكر الظرف، جرى مهرولا الى الخارج ليفاجأ بأن السيارة قد غادرت المكان. لم يكن يعرف لا اسم السائق و لا رقم هاتفه. بالكاد تذكر نوع السيارة وبعضا من أوصاف الرجل. استنجد بأول سائق تاكسي و ترجاه أن يلحقا بصاحبه فرفض فكرة المطاردة. توسل الى غيره. الى ثان و ثالث حتى رق الى حاله أحدهم و انطلقا يبحثان في مواقف التاكسي المعروفة بمدينة جدة عساه يكون قد مر من أحدها قبل العودة الى مكة. لم تسفر الأبحاث عن شيء فقررا أن يواصلا طريقهما الى مكة دون أن يعثرا على أي أثر. جلس الساعات الطويلة في موقف السيارات في انتظار شخص قد لا يأتي. طأطأ ممسكا رأسه بين يديه يفكر بعمق أحيانا و يتحدث الى السواق تارة أخرى…
عاد اليهم مرة أخرى مكررا نفس الأسئلة بعد أن صلى المغرب جماعة في صحن الكعبة قرب المقام الأبراهيمي حيث أخلص النية وألح بالدعاء في ساعة الإفطار. لم تتم فرحته بالفطر الا حين جاءه أحدهم بأولى البشائر بعد أن علم بحكايته. أخبره أن زميلا له سافر الى مطار جدة فقط لأن أحد ركابه كان قد نسي جوازاته في سيارته. شكره و اسأجره و انطلقا للتو يقطعان المسافة الى المطار....

في مطار جدة نودي في مكبر الصوت عن أشخاص بأسمائهم فردا فردا…ثم ركب هؤلاء الرحلة الليلية المتجهة الى مدينة الخبر.. ردد أحدهم مع المسافرين" اللهم هون علينا سفرنا هذا و أطو عنا بعده. .اللهم أنت الصاحب في السفر و الخليفة في المال و الأهل و الولد.."، فتح مصحفه وقرأ قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين...) ثم حولق و حمدل و همهم: بقية ذنوب احتاجت الى تعب و نصب و العودة لإتيان صلاة تعادل مائة الف صلاة!...عساها تقبل وتفتح صفحة جديدة بيضاء ناصعة من سجل الحياة

(*) عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، والصلاة في مسجدي بألف صلاة ، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة رواه الطبراني في الكبير وابن خزيمة في صحيحه ...

السبت، 9 يناير 2010

قرية وادي السدر: موقعها الجغرافي و السكاني، وتاريخها، عمارة و تجارة

بقلم: مسعود جبـــارة موقعها: وادي السدر هي قرية ريفية تقع في الجنوب الشرقي للبلاد التونسية على مسافة العشرين كيلومترا جنوب شرق مركز ولاية مدنين، (و تتوسط قريتي حسي عمر و بوحامد ) على الطريق الرئيسية رقم واحد الرابطة بين مدنين و مدينة بن قردان القريبة من الحدود التونسية الليبية. تاريخها: يعود تاريخ استقرار بعض القبائل بالمنطقة الى ما قبل منتصف القرن العشرين، غير أن البداية الحقيقة للقرية كانت مع بناء أول مدرسة إبتدائية بها سنة الف و تسع مائة و إثنين و ستين 1962 مما نتج عنه توطين بعض القبائل الرحل حواليها و إنتقالهم رويدا رويدا من الحياة الرعوية و التنقل في طلب الكلإ الى حياة الإستقرار و فلاحة الأرض و غراسة الأشجار المثمرة و بناء المنازل القارة من الحجر بدل الخيام الشعرية أوالأكواخ التقليدية التي تبنى أساساتها من أعواد الشجر الغليظة ثم تغطى ببعض الأعشاب القصبية(الصبط). المدرسة الإبتدائية: فتحت المدرسة أبوابها في شهر أكتوبر لسنة الف و تسع مائة و ثلاثة و ستين بقسم واحد للسنة الأولى إبتدائي و به حوالي الأربعين تلميذا قسموا الى فصلين: صباحي للمتساكنين القريبين و بعد الظهر للبعيدين و الحق به مسكن متواضع للمعلم و محل منفصل صمم ليكون مرحاضا غير أن وظيفته تحولت بعد ذلك ليصبح مطبخا و مطعما لتقديم وجبات الحليب الساخن الصباحية. كان دقيق الحليب يأتي في أكياس كتب عليها :مساعدة من الشعب الأمريكي- ليس للبيع أو المبادلة- ثم يغلى في الماء ليقدمه العم بلقاسم بن سعد العباسي حارس المدرسة و القائم على نظافتها للتلاميذ الذين كانوا قد قطعوا راجلين الأميال العديدة ليصلوا الى المدرسة قبل الساعة الثامنة. الميـــــــاه: بنى التلاميذ لاحقا في ساحة المدرسة فسقية أي حوضا لمياه الشرب، و ذلك لعدم توفر المياه الجارية، ويجلب لها على ظهور الحمير ما يجود به بعض المتبرعين ما جمعت مواجلهم من مياه الأمطار أو من البئر الشهيرة القريبة من هناك. تسمى هذه البئر بحسي جلبانة و هي بئر عمومية حفرت على عهد حكم البايات و لذلك تسمى كذلك ببئر "الباي ليك". كانت لها شهرة لدى القبائل المجاورة لعذوبة مياهها الغزيرة فكانت تردها من مسافات غير قريبة لجلب مياه الشرب و سقي الأغنام. يروى أن هذه البئر كانت مباركة على كل من وردها، فمياهها مقبولة الملوحة، غزيرة تتدفق بلا انقطاع، رغم الزحام الدائم عليها ليلا و نهارا. كان عمقها نحو عشرة أمتار و كان قطرفمها الذي يصل الى نحوأربعة أمتار مفتوحا دائما لاستقبال المزيد من الضيوف. و كم سقط في قاعها من الرجال و أخرجوا و لم يصب أحد منهم بأذى. تقع البئر على حافة الطريق و الى جانب واد جاف في أغلب الأوقات الا في فصل الأمطار الغزيرة أو الفيضانات و الذي لم يكن ينبت فيه سوى شجر السدر الذي يثمر النبق قبل أن تشتغل فيه يد الكد و الجد لأهل القرية بغراسة أشجار الزيتون المباركة و أشجار التين و غيرها. السكـــان و التركيبة القبلية: لا يتجاوز عدد من يقطن قرية وادي السدر بضعة الاف، تنقسم الى ثلاثة قبائل رئيسية و بضع عائلات أخرى قليلة العدد. القبيلة الأولى: العبابسة (جمع العباسي) و يعتقد على نطاق واسع أنها تنحدر من الجبل القريب من قرية البئر الأحمر الواقعة بين مدنين و تطاوين و التابعة الى منطقة غمراسن حيث كان هؤلاء حتى سنوات الخمسينات و الستينات من القرن العشرين يرجعون بالنظر في تسجيل الولادات و الوفيات الى شيخ القبيلة القاطن هناك. و من الألقاب الفرعية المعروفة لهؤلاء -الى جانب العباسي-الدائمي و عبد الدائم و فاهم و علة و الزروقي و الغمد... و تتركز الكثافة السكانية للعباسي الى شمال غرب قرية وادي السدر حول مكان يبعد حوالي الميل عنها و كان به كتاب لتحفيظ القرآن و يسمى الزاوية، مر به أغلب الذين التحقوا بالمدرسة الإبتدائية في بداية الستينات، و كان يقوم مقام المسجد الجامع أيضا قبل بناء المسجد الحالي الى جانب المدرسة. القبيلة الثانية: الخوالدية (جمع بن خالد) و يرجع أصلها الى أولاد خليفة من قبائل التوازين التي تقطن أغلب فروعها جهة بن قردان. و يلحق لقب ثامر أيضا ببن خالد. و يقطنون الى جنوب القرية. القبيلة الثالثة: أولاد سعيد (السعيدي) و هي إحدى فروع أولاد حامد و يلحق بها أيضا ألقاب تيتي و الصكلي. من القبائل الصغرى أو العائلات الأقل عددا تجد ألقاب البريني و المليان من قبيلة مزطورة في جنوب شرق القرية و لقب الجراي أو الرماش التي يعود الى قبيلة الملالحة(جمع الملاحي) الى الشرق ثم لقب جبارة و الجري و مانيطة الذين يسكنون الى غرب القرية على الطريق الفرعية نحو أرياف هيمان و هؤلاء هم فروع أو إمتدادات لعائلات معروفة في بن قردان. يبدومما ذكرت أعلاه أن كل من أوردت كانوا قد نزحوا قديما من أماكن شتى و استوطنوا هذه الجهة بعد أن استلموها شراء أو مغارسة أو حيازة من قبائل مدنين و التي لم يبق منها سوى بعض العائلات مثل كسيكسي و الحجاجي و الناصر و القاسمي و المريض. التربية و التعليم و التثقيف و الموارد البشرية: تنادى ثلة من وجهاء القرية و أعيانها رغم أميتهم الى الإلتقاء على أهمية التعلم و نشر العلم في أوساط الصغار كما الكبار. تكونت لجنة لبناء المسجد الجامع بالقرية برئاسة الحاج المحجوب جبارة و عضوية الحاج علي بن خليفة، و أبو بكربم محمد العباسي و الحاج ضو بن عبداللطيف، و الحاج ابراهيم بن خالد، والحاج محمد ثامر و الحاج عون الجراي. و تم بناء الجامع في نهاية السبعينات ثم المئذنة و على مراحل بتبرعات الخيرين و أهل الجود و الكرم. و كانوا اسأجروا الشيخ الفقيه الحاج الطاهر قدور مؤدبا يحفظ القرآن الكريم لأبنائهم و مربيا فاضلا لهم و إماما للمسجد و خطيبا و قائما على دروس الفقه الأسبوعية للجميع.(إن خير من استأجرت القوي الأمين). أشرف على إدارة المدرسة مربون أفاضل أولهم كان سي علي المرزوقي(من قبلي)1963، ثم تناوب عليها الأفاضل سي الطاهر الجويلي و سي الجليدي اللافي (من بن قردان) و سي المبروك الكواصي و سي الطيب بوعائشة و سي محمد بن يامنة (من مدنين) و اشتهر هذا الأخير رحمه الله بعدها كخطيب في جامع الحمايدة بمدينة مدنين، ساهموا كلهم الواحد تلو الآخر، إضافة الى المهمة التربوية، في تطوير المدرسة بإضافة فصول أخرى و تنظيف الساحة و تسييجها و غراسة الأشجار بها. و تخرجت أول دفعة من مدرسة واد السدر في شهر جوان 1969 حيث نجح 25 من 27 تلميذا في شهادة الإبتدائية و الإنتقال الى المعهد الثانوي بمدنين و حققت المدرسة الى جانب هذه النتيجة الإستثنائية تفوقا آخر إذ كان للتلميذ مسعود جبارة الترتيب الثاني على الولاية (مدنين\تطاوين) كلها في هذه المناظرة الوطنية. و لا تزال الأجيال تتتابع ذكورا و إناثا و النجاحات تتلاحق حتى كان من خريجيها العشرات من المهندسين و الجامعيين و أساتذة الثانوي و المحاسبين و المعلمين... العمــــارة: بعد فتح المدرسة أبوابها سنة 1963، و تقاطر التلاميذ عليها، كان لا بد من توفر بعض الخدمات الضرورية لفلذات الأكباد و لمن يصطحبونهم. في سنة 1965 تشارك مؤدب الأطفال و التاجر المحنك الشيخ إبراهيم بن خالد مع المحجوب جبارة و أبناء سالم بن خالد في مشروع رائد يومها و هو بناء ستة محال تجارية متلاصقة، قبالة باب المدرسة و على الجانب المقابل من الطريق العام. كانت مساحة الواحد منهم ثلاثة في ستة أمتار، بالحجر و الجبس و هو مادة كلسية تخلط بالماء و تستعمل في إقامة البناء كرابط بين الأحجار المصففة. لإعداد مادة الجبس، أقيمت الأفران في المنطقة القريبة من حي الجراي حيث تتوفر مادته الترابية الخام و حيث يكثر شجر الرتم الذي به تسعر النار. و كانت مواد البناء هذه كلها محلية الصنع و تجلب الى مكان المشروع على العربات التي تجرها البغال. أما سقف البناء فهو على شكل قبو نصف دائري و يسمى بالكمرة. تم الإنتهاء من المشروع في مدة وجيزة حيث ساند العمال في البناء متطوعون كثر و كانت الإبتسامة تعلو وجوه الجميع و هم يتبادلون المزاح و النكت الملاح أو هم ينشدون "جبسك باهي و صاحبه يبغي الشاهي" و هم بذلك يستحثون في طلب المزيد من الشاي الذي كان يقدم لهم. إذ كان من عادة الناس أن تسارع الى الدعم و المساندة و التكاتف عند الحاجة في مثل أوقات البنيان و الأعراس و تسمى الرغاطة (أو الفزعة و هي نوع من العمل الإغاثي) ثم ينتهي العمل بوليمة تذبح فيها الخرفان و يقدم لحمها مع الكسكسي إكراما لكل من ساهم أو حضر. المــــتـاجر: إفتتح الحاج إبراهيم أول محل تجاري للمواد الغذائية وكان تميز ببيعه للتلاميذ ربع خبزة مع شيء من الفلفل و كان يضاهي في لذته يومها الأكلات الجاهزة التي انتشرت و اشتهرت بها محلات أمريكية هذه الأيام. و في فترة لاحقة حوالي أواخرالسبعينات أضاف إبنه محمد الى المحل التجاري خدمة الهاتف العمومي التي تدخل الى القرية لأول مرة. و في نفس السنة، إفتتح المحجوب جبارة محلا تجاريا مماثلا لكن ليوفر إضافة الى المواد الغذائية الأدوات المدرسية مع خدمة مجانية يوفرها ابنه لكتابة الرسائل الى المغتربين في مدن تونسية قريبة كجزيرة جربة أو في القطر الليبي المجاور أو قراءة ما يرد منها على أصحابها الأميين من الرجال و النساء و الرد عليها. كانت تجربة مثيرة جدا أن تحمل اسرار الرجال و النساء في سن العاشرة و أن لا تذيعها بل أن تدفنها داخلك الى الأبد.! ترك المحجوب التجارة سنة 1969مع موجة الإشتراكية للوزير بن صالح و الدعوة الى التعاضد للعمل على الجرار و لينقلب الحانوت في فترة لاحقة الى محل لإصلاح الدراجات. ثم التحق محمد و مصباح أبناء سعد بن عبد اللطيف بالتجارة أيضا، هذا النشاط المتقلب بين الربح و الخسارة. و أصبح في فترة متأخرة أيضا مركزا لتوزيع البريد. أما أخوهما الأكبر العم بلقاسم فقد تقاعد من العمل و القيام بشؤون المدرسة ليخلفه السيد خالد بن خالد. شبكات المـــاء و الكهربــــاء: لم تصل هذه الخدمات الى سكان وادي السدر الا بعد جهد جهيد من بعض وجوه القرية و رجالاتها و محاولات عديدة مع السلط الجهوية و شركتي المياه و الكهرباء رغم مرور خطي الكهرباء و المياه بالقرية في اتجاه بن قردان منذ 1964. تم ذلك في منتصف الثمانينات (سنة 1986 ) حيث تم بناء خزانين للمياه و مد القنوات لتصل الى المتساكنين على بعد ثلاث أميال.

أخلص العمل و النية، و أعتبر من قصة العقرب و البنية

مقـــامة بقلم: مسعود جبارة
سبتمبر 2009

حدث مصعب بن جبير الحكيم، إبن أخيه اليتيم قال:
تفكر أعزك ذو الجلال، و أمدك بالمال الحلال، هداك الباري، و أخصك بصالح الذراري، في ما يحكى عن تصرف الولاة مع رعاياهم من البشر. يا بنيّ، أرجوك و أدعوك، أن تقرأ أهم السير، و إذا قرأت فدقق و أمعن النظر، في المعاني و ما وراء الكلمات، لتستخلص الدروس من بين المفردات، خاصة وفي القرآن ثلث للقصص و العبر، و قال أن فيها عبرة لمن يعتبر.

لك مني إحدى الحكايات، فيها من الآيات المعجزات. خذها على الحساب، لأن فيها كل الخير و الثواب، لمن اعتبر و تاب، و استوعب الدرس و فصل الخطاب. أما من آثر العناد، و سياسة اليد على الزناد، ليسوق الناس بالإرهاب، كالبهيمة الى الزريبة، أو مثل الدواب، فتبين فيما يلي مآله، و سوءعاقبته و خيبة عياله.

أضاف مصعب فقال:

روى لي أستاذ علماني، قصة ابنة سلطان روماني، كانت له سببا في شرح الصدر، و الإيمان بالقضاء و القدر. كان الملك تؤرقه مسألة التوريث، فأقسم أن يحرم زوجته من الحلي و بيتها من التأثيث، ثم أن يطلقها بالتثليث، إن لم تنجب له الولد، ليخلفه على عرشه في الغد.

ثم كان أن رُزق من بعد هرمه، و تكررِ مرضه و سقمه، بمولودة أنثى من حرمه، فأقام لها الأفراح، و الليالي الملاح، و رغم أن الأنثى غير الذكر، فإنه قرر أن يستمر، في تدليلها و سعودها، الى أن يشتد عودها. و لم يبد كـَـلاًّ، بأن يحظر لها باليد أكلا، و بالأخرى دلالا، و تعليما و استدلالا.

و ذات يوم، قرر جمعَ علـْـية القوم، و من تأخر منهم وجه له شديد اللوم. أتى بهم من كل التخوم، و حول موائد الفواكه و اللحوم، طلب منهم النصيحة، في توريث إبنته المليحة. فدلوه على الإستفتاء، و من نتيجته سوف لن يستاء، بل سيرى منهم ما يسره، و ما نقص بعد التسعات فلن يضره.
قال أنه لن يقبل أبدا لحكمه أن ينهار، لا في ليل و لا في وضح النهار، لأنه يرفض نقل السلطة الى السفالة، من الرعاع و الحثالة، و لم لا تكتبوا لأمها الكفالة، أو أن تحكم بالوكالة، حتى تكبر ذات الحسب و النسب، و تعتلي المكان المناسب، التي هي به جديرة، و جينيا هي له مؤهلة و قديرة ؟.


قرّب منه العرّافين، ومن البطانة المرجفين، فتكهنوا أن ابنته الأميرة، ستموت من لدغة عقرب صغيرة، إن لم يأخذ الإحتياط، و يفك بينها و بين الناس كل إرتباط. لم يجد في الأرض متسعا، و لا مكانا مرتفعا، سوى أن يأخذها الى جزيرة، حيث بنى لها قلعة منيعة شهيرة. جعل لها سريرا عاليا، في مكان من القصر خاليا، و قرر ألا يستقدم الجواري و الخدم، و أن يخدمها بنفسه قبل أن يندم حيث لا ينفع الندم.

وفي يوم من الأيام، أشتهت الأميرة، أن تأكل من العنب عنقوداً، فبذلوا في طلبه جهدا و نقودا، ليجلب من أرض بعيدة فيها كروم وفيرة، ولسوء الحظ أو قل ليتوفر السبب، فإن عقربا استطاع أن يختبئ بين الحب، دون أن ينتبه له كل محب، وعندما باشرت تأكل من العنب، لدغها، فقالوا: يا للعجب !!، ماتت من عنب، هل كان فيه عقرب، أم كان فقط السبب؟؟

سجــــين الحمامــــات

قصة يقلم: مسعود جبارة
أوت 2009

الخضراء بلد جميل بجباله و سهوله، برماله و شواطئه، بمدنه و أريافه، بحقول القمح و واحات الجريد. و كما كل شواطىء البحر الأبيض المتوسط هو جميل التضاريس و معتدل المناخ، و يزيد عنها بموقعه الجغرافي المحوري بينها. لكن هذا السحر الطبيعي و المناظر الخلابه تصبح أجمل بفعل الإنسان و حركته الدؤوبة للبناء و التعمير.
تتالت الحضارات الشهيرة، و شعت على الدنيا قرطاج الفينيقية و الرومانية الى أن ظهرت مع الإسلام القيروان عاصمة لإفريقية، و بنى الفاطميون المهدية قبل العاصمة المصرية. إشتهرت تونس بالزيتونة ضمن سلة المنتوجات الفلاحية، كما عرفت بجامع الزيتونة، ينشر العلم النافع الى كل الأصقاع كأحد أهم المؤسسات الجامعية.
الأصل في بلد الزيتونة، أن تكون الأعراض مصونه، لا أن تكون مكارم الأخلاق مدفونه، أو أن يطلب من المرأة خلع حجابها بكل رعونة، والمقصود الحياء و مدلوله، و يحبس في الحمام أهل الشهامة وأصحاب الرجولة.!

وللحجة و التدليل، لكم القصة التالية بالتفاصيل:
الحاج أحمد مواطن تونسي بسيط، في العقد السادس من عمره، و عامل فلاحي يقطن إحدى أرياف البلاد. كل ما يملك بضع شويهات يرعاها، يعتني بها لأوقات الشدة و الضيق و شاحنة صغيرة من نوع "كات كات بيجو"، ألفها و ألفته، فهي الى جانبه في كل أعماله الفلاحية و الرعوية نقلا و تنقلا. ترفض أن تحال الى التقاعد ما دام فيها شيء من طاقة، و ما دام صاحبها قادرا على قيادتها و توجيهها وتحمل مصاريف صيانتها.
كغيره من أهل الريف، يكد كل يوم من الصباح الى المساء سعيا وراء طلب الرزق الحلال و القيام بشؤون عياله. اجتهد ما استطاع خلال السنوات الماضية في توفير المال اللازم لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام.
أخيرا، تحققت له هذه الأمنية في العام الماضي بعد محاولات ثلاث مخيبة للآمال مع نظام القرعة المعتمد لإختيار صاحب الحظ لزيارة البقاع المقدسة، و منذئذ أصبح أكثر إلتزاما على أداء واجباته الدينية و منها الصلاة في أوقاتها.

حل شهر شعبان وإقتربت المواسم و الأعياد لهذا العام، بقرب حلول شهر رمضان الكريم ثم الأعياد و اقترانها بالعودة الى المدارس و المصاريف التي تتطلبها. و إذ كان له خروفان يرعاهما لهذه المناسبة، قرر أن الوقت قد حان لبيعهما و الإستفادة من ثمنهما في تدبير شؤونه. فأدلج بهما ذات يوم الى السوق الأسبوعي بالمدينة المجاورة على متن شاحنته.
توضأ و انطلق لأن الوقت لم يزل مبكرا لأداء الصلاة. في طريقه الى المدينة، استوقفه شخص يبغي اللحاق بقطار السابعة صباحا و السفر الى العاصمة. وصلا الى سوق الماشية و قد بدأ يتوافد اليه الباعة و التجار و خاصة الجزارون. أنزل الخروفين من الشاحنة و راح يقدر وزنهما، يتلمس الظهر لتقدير درجة سمنتها و يفتح الأفواه لتكشف عن أسنان تبرهن عن صغر السن، ممنيا نفسه بسعر مجز و ربح وفير.

بسرعة، انتبه أن وقت الصلاة قد حان، و لما كان صاحبه لم يزل الى جانبه، استأذنه أن يبقى مع الخروفين حتى يعود من أداء الصلاة جماعة في أحد المساجد. ركب سيارته و بحث عن أول مسجد، غير أن أنوارالمئذنة أطفئت إيذانا بدخول الوقت و حضور الصلاة كما هو متعارف عليه، فواصل الى المسجد الذي يليه غير أن المصلين و هم بضع شيوخ كانوا قد فرغوا لتوهم من صلاة الجماعة. في السنوات الأخيرة، عادة ما تكون الصلاة خفيفة خاصة يوم السوق الأسبوعي، فيقرأ الإمام بقصار السور التي لا يجيد حفظ سواها و يغادر مكانه بسرعة دون القراءة الجماعية للمعقبات و الأدعية.

انزوى الحاج احمد في ناحية من صحن الجامع و صلى السنة و الفرض و لما سلم و فرغ من تسبيحه و أذكاره شعر بضرورة قضاء حاجته البشرية فأسرع الى الحمام التابع لمكان الوضوء خاصة و أنه قد يقضي كل صباح ذلك اليوم في المدينة.
في نفس تلك اللحظات، كان المؤذن يغلق الأبواب، بدءا بقاعة الصلاة فالميضة و أخيرا باب السور الخارجي تطبيقا للتعليمات المشددة التي تسري على الكل دون استثناء الأماكن الريفية أو مراعات المتقدمين في السن الذين يفضلون الإستراحة في المساجد إنتظارا للصلاة التالية ثم انطلق لقضاء شؤونه الخاصة العديدة في يوم السوق الأسبوعي هذا ولم ينتبه أنه ترك وراءه سجينا في حمامات الميضة.
أسلم الحاج احمد أمره لله بعد استنزاف كل محاولات طلب النجدة بالصياح و الطرق العنيف على الباب وبعد أن خارت قواه و خانته كل الحيل لفتح الباب الحديدي من الداخل. فكر في استعمال هاتفه الجوال للإتصال بأي صديق يمكن أن يأتي لنجدته، فأسرعت يداه تبحث عنه في جيوبه غير أنه لم يجده إذ كان تركه في محفظته مع الأوراق الثبوتيه و أخرى بها آيات قرآنيه، لذلك كان يتعمد تركها في السيارة قبل الذهاب الى الخلاء.

أما بالخارج، فكانت السيارة جاثمة ضمن طابور طويل من أشباهها، يستعصي على غير صاحبها التعرف عليها، تستريح من وعثاء السفرالليلي عبر المسالك الفلاحية الوعرة و تنتظر بحيرة و قلق عودة المسجون في أقذر مكان وفي أسوء الظروف.
أما رفيق الحاج احمد لتلك الليلة و في تلك السفرة و حارسه على ممتلكاته في سوق الماشية من بعده و في غيابه الذي بدأ يطول و يطول مع تقدم الوقت، كان يتساءل و يتساءل لكن ما من مجيب و لا يجد هو نفسه جوابا. فأصبحت تتجاذبه الأفكار الغريبة و تساوره الشكوك وتخامره الظنون و تراوده الأهواء.

أضرب الحاج احمد عن الطعام، أكثر من الإحتجاجات، لكن أبواب الحبس الإنفرادي لم تفتح إلا في النزر الأخير من الفترة المقررة أي قبل الأذان بدقائق. خُيٍــر بين أن يلزم الصمت أو يواجه تهم التسلل خلسة والتسور الى داخل المسجد للسرقة. أمام ضيق الإختيارات، فضل أن ينسحب من السجن المظلم الذي كان فيه الى ما هو أكبر و أفسح و رأسه مثقل بما قد يكون حصل في فترة غيابه. هل تسلط أحد اللصوص في فترة الزحام على رفيقة دربه طمعا في ما بداخلها أم قد يكون استغل غفوة الناس الى القيلولة و إختطفها و حول وجهتها لإغتصايها؟ ثم ماذا فعل الشخص الذي إئتمنه على شويهاته و كيف تصرف فيها و هو معذور على كل حال؟ هل تسبب في تأخيره عن سفره و تعطيله عن قضاء شؤونه؟ ربما يكون جر له متاعب لا أول لها و لا آخر في حين لا ناقة له ولا جمل !
بينما كانت رجلاه تحملانه الى غير مقصد، تزاحمت هذه الأفكار في رأسه فأنسته نفسه و اختلطت عليه السبل و حار أي وجهة عليه أن يؤمها أولا. صلاة الظهر فرض و قد دخل وقته غير أنه سيلاقي المؤذن السجان هناك أم يسرع الى السيارة رفيقته و أعز ما يملك في هذه الدنيا أم يتجه الى الشويهات و حارسها و أداء حق الرجل عليه ؟....
على نحو ما، حاول الحاج احمد التجاوز و طي هذه الصفحة من تجاربه الحياتية غير أن المتاعب لم تنته عند هذا الحد. فقد راجت قصته بين الناس بعد أن حدث بها زوجته و أهله مضطرا غير مختار ليبرر عوزه و سوء حاله بعد ضياع كل أمواله.
زاره العمدة مرات و مرات مصحوبا بأعوانه ومرفوقا بانذارات التهديد و الوعيد و تؤاخذه بتهمة تشويه سمعة مؤسسة مقدسة وأصحاب الأيادي النظيفة القائمين عليها.
فالمطلوب غض الطرف عن ما سبق و فات، بل حتى ما هو قادم و آت، و أن يبقى هؤلاء فوق الشبهات، و فضلهم يجب أن يتردد دوما على كل الشفاه و الوسائط، تلهج به الألسن و الأقلام بمن فيهم من حبس في محل الغائط.؟ أ هكذا نثبت حبنا للأوطان و الخرائط !

وقع المقال أم وجع النعال

مقـــــــــــــــــامة بقلم: مسعود جبارة
أكتوبر 2009

حدثني منتصر بن يزيد قال: كان يسوسنا إمام فاجر، فكلنا أمامه مزجور و كُـلٌّ وراءه زاجر. عرَّض عِرضنا للمفاضح، و أعْرض عن نصاحة الناصح، رفض كل عَـرض، و هتك كل عِـرض. فك الألغاز و العقد، و ردَّ كل منتقد. فتسلط و تجبر، حتى زعم أنه الربُّ الأكبر.

قلت له: و هل كنت توالي ذاك الوالي؟
قال: أنا من تربة قديمة، ذات تاريخ و قيمة. أنا من قبائل مقيمة، تعيش هنا عيشة كريمة، تفلح الأرض و ترعى البهيمة. فلا تسألني عن ذلك اللجاج، فقد عرفنا قبله الحجاج. فعل مثل فعله، فقتل مع بغله. لجأ الى جحر بالمدينة، فذبح يوم الزينة.
حتى رمتنا الأقدار، بقوم أقذار، جاءوا من وراء البحار، يركبون البخار. فما منا إلا حائر أو محتار، أيقاتلهم أم يقاتل شعب الله المختار. ليست لهم شيمة، ولا سيرة مستقيمة. رمونا بسجن أبوغريب، و أذاقونا ألوانا من التعذيب. أتـَوا بالوفود، ليستقبلوا بالورود، و ليمتصُّـوا الوقود.
فنهضتُ لرد الكرامة، أبغي الشرف و السلامة، لأمَّـة العُرْب، من ذُل المعتدين الغُرْب، أفرِّج الكرب، عن ضحايا الحرب. فكرت في الفداء و أن ألتحق بالشهداء. لقد تأثرت، فثُـرت، لِمَا رأيت من الأشلاء، و من تعاون العملاء. لم أجد لي من وسيلة، فآثرت الحيلة. صوَّبت زوج الحذاء، و رميت به رأس الأعداء. غير أني أزعجتهم و لم أعجزهم، فشنُّـوا عليَّ الهجوم، حتى تلألأت في وضح النهار النجوم. أَحكـَموا شد الوثاق، و استجوبوا كل الرفاق.

قلت: يا منتصر، أمنتحِـر؟، أم أنت حُـر؟،....و تبشِّـر بالمهدي المنتظر!
إنك رميتَ الشاشة إذ رمَـيْـت، و المعتدين دون قصد حمَـيْـت، إذْ حُرِمْنا من صحفي ينقل الصوَر، فأُصِيب فهْمُـنا بالعور. و الآن و قد فعلت الذي فعلت، و نالك ما نلت، ثم خرجت بعد ترتيب، و لك من الدنيا نصيب. ها قد لبثت في السجن بضع سنين، و عدت بخُـفَّيْ حنين، فهل أنت نادم، و ما أنت فاعل في القادم؟
لم يرُقـْهُ السؤال، حتى إنه اليَّ مال، قطّـب جبينه و قال: و ما فعلت أنت، سوى العبارات المهذبة، و الاستعارات المستعذبة، و المقامات الموشحة، بالأساجيع المستملحة؟
مرت برهة، و ذهني في سرحة، نكست رأسي، و سكبت كأسي. جررت أذيالي، على خيبة إذلالي. حدثتني النفس الأمارة: ما لي و الإمارة، فمحرابي أحرى بي، و أسمالي أسمى لي. حتى أني هممت أن أترك المدينة، و كل أسباب الزينة. قبل أن أعود الى رشدي و أوَدِّع سهدي. فنهرتها: أن صَـفِّي، و أنـْصِفي، فالعمل بالنيّة، ولا تخشي المنيّة. فاستجمعت بأسي، و استعدت رباطة جأشي.

قلت يا مهجة يزيد، عن المنهج لا تزيد، و عن الكلام المفيد لا تحيد، فلكل مقام مقال، و وقعه أحدُّ و أشدُّ من وجع النعال.
و إني عقدت العزم، بكامل الحزم، إن عبَّرتُ حبَّرتُ، و متى إخترعتُ خرَّعتُ. و إنه من أوجز أعجز، أما إذا أسهب فقد أذهب. ثم إني أعرف جيدا مقداري، لن أعزف و لن أداري. سأصبُّ عليهم نار الغضب، وعلى كل من وقف مع أبي لهب. سأكتب و لن أكذب. زلفى الى رب الأرباب. سأشرح الأسباب، لكل الأحباب، و لكل من هب و دب. سأفصح و أفضح و لن أصفح. لن أخشى غنيًّا، و لن أجامل غبيًّا.

صنوف الأحياء تواجه صروف الحياة

بقلم: مسعود جبارة

صنوف الأحياء تواجه صروف الحياة
باللامبالاة، بالموالاة، بالمعاداة أو مع المساواة


أزعم أن الواحد منا، في تصرفاته و سلوكياته، سواء في معالجة أموره الخاصة، العائلية و المهنية، أو في تعامله مع الشأن العام، لا يخرج عن أحد الأصناف التالية. و أزعم أن هذا التصنيف ينسحب على الأحزاب و الجماعات كذلك.
فهو إما أن يكون:
1- "امْـدنْـكِسْ": أي ذليل و رأسه منكّّـس، كما تنكّس البلدان الأعلام، في المناسبات الحزينة و المآتم العظام. فهو الذي يطأطىء الرأس دائما، أكان قاعدا أم قائما. دلالة على استعداده للقيام بتنازلات، أمام أي صعوبات، حتى بدون ضغوطات. هي حالة تعبرعن نفس إما منطوية حزينة، أو استنفدت كل ما في الخزينة، و ترغب في الركون الى الزينة. فلم تعد بالصبر تتجمل، لطول عهد فاق كل تحمل، أو هي منكسرة، و طموحاتها منحسرة، تقبل بالذل و الهوان، و تجد فيه شيئا من الراحة و الإطمئنان، و لا ترى في الإستسلام للواقع أي خذلان. وسياسيا هذا الصنف هو جزء من الموالاة، إما توظفه أو تسلمه بطاقة الوفاة!

2- أو "امْغـنْـفِـسْ": أي منغمس غاطس، و منهمك منهك. و هو الغارق في شغل استهلك كل طاقته، فلم يعد يعي بما يجري حوله أو في ساحته، و هوعادة ما يأخذ وضع الركوع، (أي منحني أو "مطبس") أو الجلوس في خنوع، مكوّر الظهر على الضلوع ( و شكله "امْتَرْفِس" أو مقرْفِص ). و هذا حال أغلب الناس، وعامتهم بالأساس، يلهثون ليلا و نهارا وراء لقمة العيش، و يرون أن غير ذلك هو ملهاة و طيش، لا وقت لأحدهم يخصصه للتفكيرو التدبير، و المشاركة في الإصلاح أو التغيير. و من يغرق منهم في الأوهام أو الأحلام، فلا أثر له في الواقع إلا كما تفعل الأصنام و الأزلام. فهو من حزب اللاّمبالاة، لا يتابع الأحداث ولا تعنيه نتيجة المباراة !

3- أو "يرفس": و يتفلسف: و هذا أزاء أفعاله، ينقسم الى قسمين:
• الأول "يغفّس" أو يعفّس، و يدُوس من يسُوس، إذ هو يحاول الفعل والكد، و لكن لاعقل له كي يجتهد. غالبا ما يكون مؤدلج، و لكن عقله بارد مثلج. فعمله لا يثمر، بل قد يكون مدمّر، لأنه عمل مقلوب الأولويات، متداخل المراحل و الإتجاهات، فلا يؤدي الى نتيجة، و لا يؤوي الى وليجة. تراه منتفخ الأوداج، إذ يعتقد أنه لغيره لا يحتاج. هو دائما متوتر، مزاجه معكّر، و جوّه مكدّر. هو متعطش للدماء، و في تحركاته يخبط خبط عشواء. فقليلها صائب و كثير منها يجلب المصائب. و ينتمي عادة الى جماعة الجمود و التشدد و المغالاة، من يهرول الى العنف و التقتيل و المعاداة، ينزع اليها بإجحاف، بدل الحوار و التسامح و قبول الإختلاف.
• و أما الثاني، فلأنه مفلس فهو (امْـطـنِّـشْ). لا يهتم بما يدور حوله، حتى و إن طلب منه فيه قوله، أو إن تناهى الى سمعه، ما يعنيه مباشرة و ما أذرف دمعه. و هو يفعل ذلك عن وعي، و لا يبذل إليه أي سعي. فموقفه هو التجاهل الدائم، و ردّ الفعل عنده غير وارد و لا قائم. و هو موقف يقوم على أن المسائل سهلة، والتنفيذ أسهل ولكن يحتاج الى مهلة. و فلسفته تقول: طنش، تعش، تنتعش. لا تضايق نفسك وتهتم بالأنام، هم لا يستحقون أصلا الإهتمام، و لماذا تهتم بشخص لا يستحق، و به لا يمكن أن تثق. أول ما تستكين اليه و تعطيه ظهرك، يطعنك بسكين ترسلك الى قبرك. و أنه أولى لك أن تترك الذي قد يجرحك أويهينك، الى ما يذهب عقلك و على نسيان همومك يعينك. و هؤلاء هم جماعة المسكرات، و حزب "الزطلة و الشيخات".

4- أو هو كيِّــس : وهذا النوع الرابع، هو الصنف الرابح، ذو العقل الراجح. فانتصاب القامة، و ارتفاع الهمة و الهامة، هو الوضع الطبيعي لكل كائن حي. فهذه الوضعية، هي السوية، و ليس كمثلها شيء. فهي تسمح لكل جسم بإمكانية الحركة، تقدما أو تقهقرا لحسم المعركة. وضعية تسمح له بالجري، أو بالركض أو بالمشي، أو التوقف للإستراحة، إن دعت الحاجة. كل ذلك تبعا لما يصدر اليه من الدماغ، من الأوامر أو النواهي بعقل واع، يأخذ بعين الإعتبارات، المبادىء و المصالح وآخر المستجدات. و إلى هذا تنتمي أحزاب العدالة والتنمية و الإصلاح والشورى و المساواة.

فهل يستقر المرء على نفس الوضع، أم ينتقل في يومه بين الأربع ؟ يصبح كيّس، ثم يمشي و يعفس، كي يمسي منكّـس !
--------------------------

الكلمات التي أوردت بين ظفرين هي من اللهجة العامية الدارجة في بعض جهات تونس، و قد يكون أصلها بربري.

فيها مآرب أخرى

بقلم: مسعود جبارة

قالت محدثتي: عجبت لولد آدم و حوى، من ذكر و أنثى، كيف يكرهني صغيرا، و يحرص على كسب ودي بل و ملازمتي كبيرا. لا ذنب لي إن ارتعدت الفرائس، أو بكت في خدرها العرائس، إن ظهرت بيد متجبر طاغية، أو مع أحد من الشرطة و الزبانيه. من لوّح بي فتلك علامة ضعفه، بل و قِصر حجته و دنوّ حتفه، و من استعان بي فعلامة شيبته و وهنه.

أظهر لي العرب، كثيرا من الود و الحب، و كل الإحترام و الولاء، إذ جعلوا من صورتي أول حروف الهجاء. ابتدئت العديد من سور القرآن بألف لام، و كذلك لتعريف الإسم من الكلام. فإذا لا لوم و لا ملام، أن يستعملوا صورتي أيضا لأول الأرقام!

أنا أصلا من الخشب، و كذا عرفني العرب، لكن قد أفاجئكم بالقول، أني جميلة إن صنِّعت من مواد البترول. فتحولت مع تطور البشرية، من ريفية الى حضرية. لقد كنت لموسى معجزة و آية، و لي مع كل راع حكاية.
و قبل أن يشتد بي الغضب، على من لم يتعرف بعد على اسمي و لا اللقب، أضيف له بعض التفاصيل، عله يجد فيها سهولة التحصيل، فتغنيه عن التخمين و التحليل. فانتبهوا لقصة صديقي الراعي، و هو يصفني من ساقي الى ذراعي.
------------------------------
فضّل أن تكون صديقته من صنع يديه، و من شجر السدر الشوكي المعروف بصلابته. قطع الجذع و اختار بعناية طوله الذي يتفق و طول قامته، و سمكه الذي يتناسب مع راحة يده. حذق ليّ طرف العود بإتقان، ثناه ليأخذ الشكل المعقف الذي يحبذ دون شروخ أو كسور، ثم قام بإحمائه على نار هادئة حتى جف ماؤه و قويت قامته. فلما استوت بساقها الطويلة و قدها الممشوق، فك قيدها، و سلخ جلدها الأسمر، قلّم شوكها و أذهب عنها كل أذى، حتى صارت بيضاء ناصعة، تسر الناظرين، يضمها اليه من غير سوء.
هزها كأنه يزنها، و رفعها الى أعلى حتى تجاوزت هامته، ثم دفعها في حركة دائرية خلصتها من كل قيد، فحلقت في الفضاء، سعيدة بالطيران، ثم رجعت لترتكز في دورانها على إبهامه، فيدغدغها بسبابته تارة، و يهمزها بخنصره تارة أخرى، كأنما يستحثها لتزيد من سرعتها و من روعة عروضها.
تمايل معها بجسمه النحيف، ثم هزّ كتفيه هزّا خفيفا لتزداد نشوة بانسجامه مع حركاتها و تنتقل برشاقة من يمناه الى يسراه، كالفراشة تحوم حول زهراتها. قرر أن ينهي العرض عند هذا الحد، فأنزلها و أنفاسه ترتفع لهيثا و قلبه يزداد دقّا. توكأ عليها كأنما ليخفي تعبه، فوقفت لجانبه و سندته، و لم يسمع لها تأوّها و لا أنينا. بدت عليه علامات الإستبشار و الحبور، بصويحبته الجديدة. تهللت أسارير وجهه، بعد إنجاز المهمة بنجاح، فأغدق عليها من كرمه، و ألبسها قصبة حديدية لتنتعلها، و أنبوبا مطاطيا اتخذته قفازا. إطمأن اليها و الى صلابتها، فاصطحبها معه أينما توجه، و خاصة في رعيه يهش بها على غنمه. تطورت علاقته بها حتى إئتمنها على ثروته و حساباته، إذ خط عليها رموزا بعدد شياهه، فبدت كالوشم في ظاهر اليد، يعود اليها عند كل جرد، أو أخطأ في السرد، إذا افتقد شاة، أو شك في العدد.

تتحول وظيفتها أحيانا الى أداة تأديب، لطفل يرفض الإلتزام بالآداب أو القيام بما يكلف من واجبات، فيلوّح بها للتهديد أو يستعملها للتعنيف؛ لصد كلب مسعور يأبى أن يتركه و شأنه، أو لفك إشتباك قد يحصل بين شاتين حول وجبة دسمة، أو إن خرجت عن الصف شاردة أو تجاوزت الحدود لتقع في المحارم كلما حام القطيع حول الحمى من الزروع و الأشجار المثمرة.
و إذا حل وقت الصيد، و بانت الفريسة، فتتحفز صاحبته في حركة دائرية حول كتفه، منتشية بالقوة العضلية التي يمدّها بها ذراعه المفتول، قبل أن تنطلق كالرمح نحو هدفه، فقليلا ما تخطىء أرنبا أو لا تصيب يربوعا.
أما إذا استرخى صاحبها يخلد الى الراحة، فتتمدد الى جواره، تؤنسه و تحرسه، حتى إذا ما إقتربت عقرب أو جاءته حية تسعى، استنجد بها، لتقوم بالواجب الدفاعي صدا للأعداء، و بالهجوم قتلا و تنكيلا للمعتدين. و عندما يشتد القيض وقت الهاجرة، فتقف صاحبته شامخة، مرفوعة الهامة، تحمل الأثقال و الأوزار، و توفر الظل و الإستقرار، لمن احتمى بها من الأحرار.
-----------

و أضيف لكم في الأخير، أني دوما في خدمة الضرير، أجنبه كل شيء خطير، أهدي سواء الطريق، و أنجد في لحظات الشدة و الضيق. فمن لم يتعرف الآن عليّ و على شقيقتي، فسأرفع عقيرتي، بقول "العصا لمن عصى"، ثم ليمشي حافيا على الحصى.

فمن لم تنفع معه غريمتي الجزرة، فالجلد بي أولى له من الرمي بالحجرة. و لكم حق التعليق أو حتى التكذيب، فقد سمعت هذا الحد من الخطيب، يقول به و بغيره من "الدرر"، تهديدا لمن لا يعتبر، و أنا بيده فوق المنبر. فهل ستواصلون الخضوع للجلاد، يتحكم فيكم و ينهب ثروات البلاد؟

الــلَّـقـطة بعفاصها ووكائها (*)

بقلم: مسعود جبارة.

ذات يوم سبت من أواخر فصل الخريف، انتهت الدروس في المدرسة الإعدادية ظهرا كما نهاية كل أسبوع. توجه أحد التلاميذ الى محطة الحافلات بوسط المدينة ليركب إحداها عائدا الى قريتهم التي تبعد حوالي العشرين كيلومترا. بعد عناء و مكابدة يكاد يتعود عليهما في كل مرة، تمكن من حجز مقعد له رغم أن الزحام في المحطة كان على أشده و الأولوية في الركوب للذين يسافرون مباشرة الى المدينة التالية، مما يضطر الكثيرين من سكان القرى الوسطى الى شراء التذكرة كاملة، بمعلوم السفر بين المدينتين حتى إذا ما اعتلى الحافلة وقارب الوصول الى موطنه أو مقصده كشف عن نيته المبيتة و أغرق في الإلحاح على السائق بالتوقف في المكان الذي يريد. يبلغ حد الإحتجاج الشديد حينا وينزل الى التوسل حتى التذلل أحيانا فيرق لحاله تارة أو يرضخ لمطلبه مرغما تارة أخرى.

أنجز المهمة بنجاح حينما سل نفسه بين الركاب كعود الثقاب من علبة الكبريت حتى وصل الى السائق و أقنعه بالنزول عند رغبته والتوقف في المكان الذي حدده ثم واصل بعدها السير راجلا عبر مسلك فلاحي كان خطه برجليه الصغيرتين طوال أيام سنوات التعليم الإبتدائي ذهابا و إيابا بين المدرسة و منزل العائلة. مع الأيام، كثرت السيقان التي تغدو و تروح فتطورت الطريق من مسلك منفرد للراجلين و الراكبين على الحمير ثم على الدراجات العادية قبل أن يصبح مزدوجا مع انتشار العربات ذات العجلتين و التي تجرها البغال أو الحمير...
كان الولد يحث الخطى شوقا للقاء الوالدين و بقية الأهل بعد غياب دام شهرين متتاليين في المبيت الداخلي للمعهد الذي لا تسمح قوانينه بالخروج و مغادرته إلا مرة كل شهر ولمدة تقتصر على إجازة نهاية الأسبوع. غير أنه في المرة السابقة استوجبت الإحتفالات الرسمية التي أقيمت بمناسبة زيارة رئيس دولة مجاورة لمدينتهم، منع التلاميذ من العودة الشهرية الى الأهل وحيث اقتضت الشهامة و الكرم العربي أن تكون الأولوية للإحتفاء بالضيف.

كان يحث الخطى شارد الذهن مشوش الأفكار متعبا شيئا ما من الإجهاد الذي ينتابه نهاية كل أسبوع تخللته إمتحانات.
فجأة وقعت عيناه على حافظة نقود ملقاة أمامه. انحنى و التقطها . ما بداخلها يا ترى ؟ هل تخلص منها صاحبها بعد أن مل من حملها خاوية أم و قعت منه ذات غفلة بما حوت من أوراق ثبوتية و ما ملك من أوراق نقدية؟ كلها تساؤلات جالت بإلحاح بخاطره و هو يمسكها بين يديه و يقيس سمكها. لكن لمن هي إذا؟ هو يعرف أغلب مستعملي هذه الطريق. إذ لا يعدو أن يكونوا من الأقارب و الجيران فنادرا جدا أن يمر من هنا عابر سبيل. لذلك قرر أن يتجاهل الحاح النفس الأمارة و إغراءات الوسواس الخناس.

وصل الى المنزل بعد العصر بوقت وقد مالت الشمس الى الغروب. احتضنته أمه و عانقه والده ثم سلم على بقية الأهل و الأعمام. جلس الى جانب أبيه يتبادلان أطراف الحديث. هذا يسأل عن أحوال الدراسة و نتائج الإمتحانات و الآخر عن أخبارالأقارب و ما إستجد بعد زيارته السابقه ثم أدخل يده في جيبه و أخرج اللقيطة و قدمها لوالده. نظر اليها ، تفرس فيها برهة ثم أشار عليه بفتحها و أسارير وجهه تكاد تفصح عن تعرفه على صاحبها.


هذا ما زادته تأكيدا بطاقة الهوية التي علتها الصورة الشخصية لجارهم "بلقاسم". كان رجلا ذا عيال، فقير الحال كأغلب سكان الأرياف في تلك المناطق التي تعتمد الرعي و بعض الزراعة البعلية عندما تجود السماء بشيء من القطر. حوت المحفظة الى جانب ما حوت من الأوراق العائلية الخاصة كذلك مبلغا ماليا و إن لم يحدده بدقة غير أنه لا يبدو زهيدا مقارنة بمعدل المداخيل لسكان تلك القرية الريفية. لقد تسوق اليوم العم "بلقاسم" و باع خروفين له كان يرعاهما منذ مدة و يسمنهما لموسم عيد الإضحى حيث يكثرالطلب على الأغنام عموما و على ذكورها خاصة وترتفع أسعارها الى مبالغ مشطة.
أقاما صلاة المغرب جماعة ثم قال الأب: انطلق اليه با بنيَ في الحال لعله يكون الآن في وضع لا يحسد عليه من القلق و الحزن و في حيرة من أمره و ما يجب أن يفعل. كيف سيبيت المسكين ليلته هذه في انتظار طلوع شمس الغد كي يعود للقرية ليذيع الخبر بين الناس و يعلن عن مفقوداته عسى أن تكون وقعت بيد أمينة و عفيفة فتعيدها له.
انطلق من حينه نزولا عند رغبة والده و تعاطفا هع الرجل الملهوف رغم الظلام الذي يطبق على المكان رويدا رويدا. أطلق ساقيه النحيفتين الى الريح، كي يتناسى القشعريرة التي أحس بها وهو يقطع الوادي السحيق نحو مسكن متواضع من غرفة واحدة أمامها كوخ صغير توقد فيه نار عليها قدر تلفحهه بألسنتها من جنباته.

زوجة العم "بلقاسم" تغدو و تروح تسعى جادة في تحضير العشاء لأفراد عائلتها و أولادها يتضاغون بينما يجلس هو و بيده مسباحه يراقب الشفق الأحمر في انتظار صلاة العشاء. قام من مكانه مستقبلا و مسلما بحرارة على هذا الضيف الذي لا يكاد يتبينه و قد فاجأه قدومه في وقت غير متوقع. كان سبقه اليه جرو كلب شديد الحرص على القيام بواجبه على أتمه في الذود عن الحياض و نهرالغرباء و النهوض بمهمته الإعلامية. عرف بالوفاء الشديد لسيده حيث لم يسجل عليه يوما أن تخلف أو تقاعس عن المهام التى رباه عليها و بالدقة المطلوبة في نقل المعلومة إذ لا ينبىء إلا بالخبر اليقين لأنه من سلالة توارثت هذه الصفات كابرا عن كابر.

إستقبل العم "بلقاسم" ضيفه و في داخله سيل من التساؤلات يخفيها بإعادة تكرار التحية والترحاب و السؤال عن الأحوال على عادة الناس هناك. انعقدت الألسنة بعدها برهة و عم السكون المكان. الرجل غمرته الحيرةعن سبب مثل هذه الزيارة الطارئة من شخص هو ضيف أصلا حتى على أهله و والديه و أحتار أكثرعن كيفية قيامه بواجب الضيافة في هذا الوقت المتأخر.أما الولد فصمت يبحث عن المدخل المناسب لطرح الموضوع. لقد ظهر له جليا من سلوك العائلة أن الرجل لم ينتبه بعد الى فقدانه لحافظة نقوده. كان المدخل لاعادة إطلاق الحديث بين الطرفين هو تدخل المرأة تعرض على الجمع الجلوس الى العشاء حول ما جادت به قدرها و إن لم يكن في مقام الضيف المبجل ومكانته العلمية كما علقت. سنحت فرصة التعرض لطلب العلم للقادم من أن يبدأ برواية المتاعب التي يتعرض لها كلما هم بزيارة الأهل فضلا عن مصاعب الدراسة و الإقامة.
لقد تم الحجر و التحفظ على كل الطلاب الشهر الماضي و منعهم من السفر لزيارة ذويهم للحاجة الماسة لهم كي يصطفوا على حافتي الشوارع و لأكفهم الصغيرة كي تقوم بمهمة التصفيق و الترحيب بالزائر الكبير. و أضاف أن سفرة اليوم كانت كالعادة قصة أخرى من العذاب مع وسائل النقل. غير أن اليسر لا يتأخر كثيرا بعد العسر. عندها تدخل العم سائلا:ومالذي حدث لك اليوم يا بُنيَّ وشرح صدرك؟. فأخرج الولد المحفظة من جيبه و أشهرها قائلا: هذا ما جادت به الأقدارعلي و أنا في طريق العودة يا عماه.


شخصت عينا الشيخ وهو لا يكاد يتبين ما بيد الولد. أطلق تنهيدة طويلة أراحته من النفس الذي إنحبس في داخله لبرهة من الزمن و صاح و هو يكاد يبتلعها بعينيه: كأنها هي بعفاصها و وكائها ! ثم اطلق إبتسامة محاولا إخفاء الدهشة البادية على وجهه كلما أرتفعت السنة اللهب لتزيد في إنارة المكان و تطلق شيئا من الدفء على الحاضرين. شعر بالحرج و حاول أن يكتم مشاعره غير أنه واصل مرغما يسلط النظر الى المحفظة وكأنه يتفحصها بالأشعة الصينية أو كأنه يستحثه أن لا يتأخر في تقديمها له ليتأكد أن كل محتوياتها لا تزال بداخلها.
هل افتقدت شيئا اليوم يا عم ؟ رد بالإشارة نافيا و قد ترقرقت الدموع من عينيه و خنقته العبرات قبل أن يحتضن ضيفه فتنفك عقدة لسانه و ينطلق بالدعاء له بكل خير.
استلم أمانته و رغم الحاح الولد، رفض أن يتأكد من المبلغ المالي الذي بداخلها لأن ذلك يعتبر شكلا من إظهارالثقة المطلقة و تعبيرا عن التقدير لحفظ الأمانة و رعايتها و غير ذلك يعد عيبا كبيرا في عرفهم. و في المقابل ألح عليه بأن يمد يده الى الصحفة و تناول العشاء معهم. غير أنه في الحقيقة و في ذلك الظرف المليء بالمشاعر الجياشة لا النفس تشتهي الأكل و لا الحلقوم على إستعداد للقيام بوظيفة البلع.
لإنقاذ الموقف، عبر الولد عن رغبته في الإنصراف بعد عنت هذا اليوم الطويل فكان رد العم بلقاسم أن استأذنه برهة و عاد ومعه كتاب. أهداه له و هو يكرر اعتذاره أن لم يستطع إكرام ضيفه بما يليق و ما هو أهل له. أما الطرف المقابل فكانت تلك الهدية مفاجأة سارة حقا. كان الكتاب يروي شجاعة الإمام علي كرم الله وجهه و بطولته عبر حكايته مع رأس الغول. كان الولد في سن يبحث عن النموذج الذي يتبعه و عن القدوة التي يحتذى بها، فعرف من خلال القصة رغم طابع الخرافة التي بها، أن هناك أسوة أحسن مما عرف الناس في هذا الزمان من نجوم الكرة و مشاهير الفن الذين خطفوا القلوب و الألباب.


لكن العملية شكلت أيضا و في الوقت نفسه لغزا محيرا لن يعرف له حلا أبدا. لقد كان الرجل، زيادة على فقره، أميًّا تماما، فكيف وصل الكتاب الى بيته و كيف ارتقى بذوقه و اهتدى الى قيمة هذا النوع من الهدايا نظرا للثقافة السائدة في مثل هذا المجتمع الريفي؟.
--------------------------------------------------------------------
(*) حدثنا يحيى بن يحيى التميمي قال قرأت على مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أنه قال جاء رجل إلى النبي فسأله عن اللقطة، فقال :(اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) قال: فضالة الغنم قال ( لك أو لأخيك أو للذئب ) قال: فضالة الإبل قال:( مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها). قال يحيى أحسب قرأت عفاصها