الأحد، 21 مارس 2010

غــيرة و حــيرة من إعــجاز الجــهاز

مقــامة بقلم: مســـعود جـبـــارة
روى مصعب بن جبير، قال:
اشتكت من تحول اهتمامي الى التأليف، وأني بدأت أتقاعس عن النهوض بالتكليف، بالطبخ و بالتنظيف، بل وأمعنت في رفض الأوامر، و التوقف عن إسماعها كلمة حاضر، ثم التمرد عن غسل الصحون، مذ أصبت بهوس الكتابة الممحون، و أني من أمام الجهاز لا أقوم، و عن الحديث معها أنا أصوم.
قالت أنت لم تعد تعتني بالأولاد، فلذات الأكباد، و لا تسأل عن الأعداد، ولم تعد تراجع معهم الدروس، بل و تهدم كل ما سبق من الإتفاقات و لها تدوس، فارجع هداك الله الى الواقع، و قم بالعمل النافع.
ماذا أفعل؟ أنا متحيّر، إذا العالم كله بسرعة يتغيّر، و أي بديل عن جهازي أتخير؟ به مع الأصدقاء أتواصل، و أي معلومة هي عبره من حصول الحاصل، مدعمة بالصورة و النص مع النقطة و الفاصل.
ألا يمكنكم بالصوت و الصورة، أن تتابعوا الأخبار والمحاضرات أو مقابلات الكرة، و أن تضيفوا تعليقكم، على مقال لصديقكم. و إن فضلتم الرد بالوجوم، بدل شن الهجوم، فيكفيكم الضغط على أيقونة، في الجهاز مسبقا محفوظة مصونة، فلكم أن تعبّروا بالتقاسيم، إما بوجه باسم وسيم، أو بآخر له قرين، مقطب و حزين، دلالة عن الرفض، و لرأيه بالتحقير و الخفض.

ألا ترون أن جهازي يشجع المواهب، وهو لكل التسهيلات واهب. لقد انهى عهد الكتب الثقيلة، التي لم يجد لها الجاحظ أي حيلة، فكانت لوفاته سببا و وسيلة. فسارعوا بربطه بالشبكة، و ارفعوا السرعة وأتقنوا الحبكة، لأنه من أراد لقضيته النصر، فعليه بأداة العصر .
أني محتار، ماذا أختار؟ فهل أطلقها لأبقى في الفضاء الإفتراضي أحلق و أجوب، أم أطلَّق الإعلامية فيفارقني هذا الحاسوب؟ أتكمن فيّ أم فيه العيوب؟ و هل هو يصْدُقني أم هو كذوب؟ إني أحترق، إني أكاد أذوب!

شــجــرة الخـــلد

مقامة بقلم: مســــعود جـــبارة
كثيرا ما أترك المدن الى الأرياف، في أوقات الإصطياف، بحثا عن الراحة، في ظلال الواحة. أستمتع بالغلال، و الماء الزلال. أنطلق الى قرى الجنوب، لزيارة الأهل و الوالد المحبوب، و للقاء صديق ظاهر أو محجوب. كنت أتحمل لذلك متاعب الأسفار، و إن من بلاد الكفار، إذ حبب الي من فواكه تلك الربوع ثمار التين، الني نضجت في شجرتها قبل السقوط على الطين، والتي تذكرني رأسا بما سلب من فلسطين. فهي من الأغصان تتدلى، و بلون الصفرة تتحلى، تتحجب بالأوراق، عن أشعة الإشراق.
استيقظت ذات فلق، أسبّح الذي خلق، خلق الإنسان من علق، خلقه في أحسن تقويم، و عرض عليه الأمانة للتبجيل و التكريم، و أقسم على ذلك بالتين و الزيتون، إذ علمه القراءة نثرا أو بالمتون. انتبهت عيني من نومها، و صلـّت قبل طلوع يومها، صلاة بالمدود، طويلة الركوع و السجود، وختمتها بتشهد القعود، ثم أتبعتها بالدعاء المعهود.
بعد التباكي والدموع، إثر تلاوة الخشوع، و التبتل في السجود والركوع، لفظني فراشي ومن الغيظ استشاط، و تحفزت نفسي نشاطا، فأخذت مشطا و رفشا، أزيل عن الحديقة أعشابا و قشا. غير أن عصافير بطني زقزقت، و دموعي من الجوع ترقرقت، لما رأيت بالحديقة، شجرة ذات ساق دقيقة، و أوراق كثيفة لصيقة. فدنوت منها دون تفكير، و أصبت منها ما يصيب من الخمر السكير، الى أن تصبّب من جبيني العَرَق، و غمر عيني الغرق، و توقف صدري عن التنفس، فرأيت الذبابة في حجم الخنفس. و ما لبث أن ظهر انتفاخ البطن، حتى قطّع تبان القطن، بعد سقياه بماء بارد من الماجل، اضطرني الى تلبية النداء العاجل، فأسرعت به الى الخلاء، ولم أكن عليه من البخلاء، متجنبا إتجاه القبلة، و متواريا وراء المزبلة.
فقدت الوعي، و أنا أجدّ السعي، ثم على الأرض و قعت، و بما كان في جوفي اليها دفعت.فتحت عيني على الأهل محلقين حول سريري، محدقين الى أساريري، فنظرت الى الجماعة، ثم حدقت في الساعة، و اطلقت للتفكير العنان، هل ما زلت في الجنان؟ أم خطأ أنا في عيادة حكيم الأسنان، أم حملت الى طبيب الأمعاء، ليقطع الدودية مع الإدعاء، أنها زائدة و يلقي بها في أول وعاء؟

ثم عدت الى رشدي، و قلت في خلدي، أن مثلي كمثل آدم، و علي أن أستعد لما هو قادم، فهتف في أذني من قال: قم يا أبا نُعيـْم، و اصبر على كل ضيـْم، تماسك كصحيح لبيب، لقد جاء يعودك كل حبيب.
و لما بان الفرج، فحدث و لا حرج. أما أنا فأول ما تبين لي الفرق، و ميزت؛ أين الشمال وأين الشرق، حمدت الله أن عجل بتفريج الكربة، و أدركت أن أكل التين يحتاج الى الدربة، و أنه من أكل الكمأ، لا يشرب إلا بقدر ما يطفىء الضمأ، و أما الحاضرون فالبعض انطلق، وبعضهم جلس في حلق. الأول ذهب بأجر العيادة، و الثاني طلب الزيادة، غير أنه جلس يستلم الناس بالنميمة، و يصفهم بالنعوت الذميمة.
وبعد ساعات راود النعاس الآماق، حتى أمال الأعناق، فقلت قوموا و استعدوا للقيلولة، عملا بالأحاديث المنقولة، فقد قال صلى الله عليه و سلم: " قيلوا فإن الشياطين لا تقيل". لقد جاء وقت المقيل، بعد أن كلـّـتِ الألسن من القال و القيل.