الأحد، 21 مارس 2021

وأعدوا لهم ما استطعتم

 وأعدوا لهم ما استطعتم.

بقلم: مسعود جبارة

قد يصل عدد العاملين في المنشآت النفطية بضع مئات من موظفين ومتعاقدين( تجاوز العدد معي ذات مرة أكثر من 300 عامل ) من شركات متعددة، وجنسيات مختلفة وتخصصات متنوعة من الحفر والانتاج والصيانة الميكانيكية والكهربائية والالات الدقيقة ومشاريع الهندسة المدنية للتطوير والتوسعة.. الخ

وعادة ما تقع محطات الانتاج النفطي في مناطق معزولة ونائية، إما في مناطق جبلية أو في الصحاري البعيدة أو في أعالي مياه البحار ، ويقيم الجميع ويتحركون في مساحة ضيقة جدا لمنصة كالبناية الشاهقة. تتعايش هذه الجموع من العاملين بالفكر والساعد في مجتمع حصري على الذكور وفي عزلة عن الأهل والأبناء وكل العالم لمدة قد تصل إلى أربعة أسابيع. .. 


وتقع على مدير الحقل مسؤولية كبرى لحفظ السلم في مثل ذاك الوسط، بالاعتماد فقط على حكمته وحنكته في إدارة الخلافات وحل المشاكل، إذ لا شرطة ولا أعوان معه لحفظ الأمن....كما يقع عليه أيضا حفظ منظوريه وسلامتهم الشخصية وسلامة تلك المنشآت التي تتكلف على الدولة وشركاتها بمئات الملايين من الدولارات. 

كنت ذات يوم من سنة 1985 في تربص تدريبي بمدينة مرسيليا، جنوبي فرنسا، عن أمن وسلامة المنشآت الصناعية والنفطية. كان ذلك أحد المتطلبات الرئيسية لمن سيدير منشآت نفطية هامة وحساسة ورافعة أساسية للقطاع الاقتصادي.

ويتضمن البرنامج، إلى جانب الدروس النظرية الضرورية، أياما للتدريب العملي بالممارسة ودعم التجربة بالتطبيق. وتحاكي معدات التدريب  المعدات الحقيقية. فتجرى التدريبات العملية على خزانات قديمة لمصفاة النفط و تكريره أو  على هيكل حديدي لسفينة قديمة راسية في جهة من الميناء. ...

كوننا فريق إطفاء من أربعة متدربين تحت إشراف مسؤول كبير برتبة عسكرية عالية من مؤسسة الدفاع المدني لمدينة مرسيليا ( les sapeurs pompiers de Marseille ) الشهيرة، ذائعة الصيت في مكافحة حرائق الغابات والتدخل السريع لانقاذ المصانع والمعامل عند الكوارث والحالات الطارئة.  


كان التدريب يقضي بإطفاء حريق شب داخل غرف ومحركات سفينة قديمة، كان قد تم إشعاله داخلها للغرض، بصب كمية محددة من الديزل .. يستعد فريق الإطفاء للعملية بلباس خاص يغطي كامل الجسم من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين، (بزة صنعت من مادة تتحمل ألسنة اللهب وحرارتها)،  وتحته ملابس داخلية قطنية. فيصبح الواحد منا لا يقدر على التحرك إلا بصعوبة وكأنه في كفن. و حتى قبل بذل أدنى جهد، يبدأ العرق يرشح من كل مكان في جسمه و يتصبب أودية وأنهارا تنتهي في ملابس القطن وتتسرب إلى القدمين داخل حذاء السلامة. 


وتنطلق عملية الإطفاء بتحرك أعضاء الفريق بمشقة بالغة، الواحد تلو الآخر، من غرفة إلى أخرى وقد اسودت جدرانها وغمرت المياه المتسخة أرضيتها ، ثم بالانتقال من طابق إلى آخر عبر سلم حديدي وقد تبلل بالزيوت والمياه، ويتم إطفاء النار بضخ رغوة كثيفة عليها لعزل المحروق عن الهواء وما معه من اوكسيجين.. وقد غزا المكان دخان كثيف جدا..

 أتم زملائي الفرنسيون الثلاثة ما أوكل لهم من أدوار قبلي وانسحبوا. وجاء دوري لأنجز المهمة كاملة، وقد ملء الدخان كل الأجواء داخل السفينة وخاصة المناطق العليا منها ، إذ أن غاز الكربون أخف من الهواء، حتى كاد ينقطع الاكسيجين من فضاء الغرف مما اضطرني إلى الزحف لاستنشاق ما تبقى من هواء.. كاد ينقطع نفسي وأنا أعالج النار دون فائدة، في محاولات متكررة لإطفائها بمواصلة رشها بالرغوة. 

طالت المدة دون الوصول إلى النتيجة المرجوة.. وبلغت القلوب الحناجر.. و بعد أن كان المسؤول بالخارج ويطل من حين لآخر لمراقبة العملية،  سارع بالدخول واللحاق بي لمساعدتي غير أن تدخله لم يأت بأي نتيجة.. وبعد أن لاحظ أن النار تزداد توقدا و اشتعالا، جاء قراره بالانسحاب زحفا إلى الخارج وقد اشتد بنا السعال، وأصبحنا قاب قوسين من أن نفقد الوعي إثر التسمم بالدخان. 


وبينما، استلقيت أرضا مغشيا علي فوق الرصيف، خائر القوى، بالكاد ألتقط أنفاسي، شك مرافقي في الأمر، فسارع إلى الجهة التي تغذي السفينة بالديزل... ويا هول ما اكتشف.. وجد شخصا يقهقه ثملا، وبين يديه قارورة يحتسيها ويردد " عربي نجس"... وقد فتح سنبور الديزل ويواصل تغذية النار باستمرار...

قد تأخذ كل الاحتياطات لمن يواجهك برجولة، فتستعد لمن يأتيك من الأمام، لكن الجرذان والعنصريون وحدهم يتسللون ليطعنوك من الخلف..

20 مارس 2021.