الجمعة، 13 نوفمبر 2020

مقامة (4): من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد .

(4) من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد . !!

بقلم م/مسعود جبارة. 30 سبتمبر 2020 

تزوج بدوي فتاة من قبيلته ذات حسن وأخلاق ودين وأدب، وكان يقوم و أبناء عمومته على خدمة القبيلة في سنين الرخاء والجدب. ولما تشاجر مع أحدهم وقتله، اضطر لمغادرة الديار والهرب. ومع زوجته "خرج منها خائفا يترقب"، خشية الثأر والانتقام وكانت تلك أعراف العرب. والتحق صاحبنا بقبيلة ثانية ومن شيخها تقرب -  ومن يتقرب من الشيوخ يرى العجب، وقد يؤذونه من دون سبب-  حتى أصبح ذو حظوة لديه فيستدعيه إلى مجالس اللهو والسمر والطرب.

وفي أحد الأيام وليرد له الجميل، ولو بالنزر القليل، استضاف الرجل الشيخَ وأكرمه بوليمة في البيت. ولما شاهد الزوجة سُحِر بجمالها وقال في نفسه يا ليت، واستولت على لبه وعقله وتذكر امرأة العزيز التي "غلقت الأبواب وقالت هيت".  ثم خطرت له فكرة شيطانية ، وهي أن يبعد الزوج عن المكان بفرمانات سلطانية. وأرسله بأي حجة إلى مكان فيه ربيع وعشب وشجر، لينفرد بالزوجة و ليقضي منها الوطر، ويخلو له الجو دون إزعاج ولا كدر.

ودع الرجل زوجته وسافر، كما أمره الشيخ عن طيب خاطر، عساه ينجز المهمة بنجاح ويعود بالصيد الوافر.

وعندما نام الناس وأرخى الليل سدوله، تسلل الشيخ إلى خيمة جارته بكل سهولة. وكانت المرأة تقوم الليل وحيدة ، وتسبح الله وتستغفره لساعات عديدة. وقبل أن يدخل عليها ارتطم في العمود، وسقط على التراب ولم يستطع الصمود، وأحدث صوتاً وضجيجا وجلبة، فسبحان من غير المشهد وقلبه. لقد انتبهت المرأة على الصوت وصاحت من القادم و ما الذي جاء به.؟ 

فرد الشيخ : أنا من استضافكم، أنا فلان شيخ القبيلة، وقد جئت اتفقدك وغايتي نبيلة.! جئت أسأل عن أحوالك، وقد أذهلني حسنك وجمالك، وأريد قربك ووصالك، وكل مالي وحلالي هو مالك !

فكرت البدوية وقالت: ليس لدي مانع . ولا أشترط الإبل ولا المزارع،  لكني اشترط الشخص البارع، في تفسير الأحلام وفك الألغاز،  ويستخلص الدرس عند نقل الحقيقة إلى مجاز. فقال هات ماعندك وهو مقتنع أنه قد فاز، فقد جمع كل التكتيك وخبر تقنياته و حاز. فتابعت : يا شيخنا، إن اختلف إثنان من القبيلة تدخل كبيرها بالصلح، وكي لا يجيف اللحم يرشون عليه الملح. "فمن يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد" ؟! ولا تتسرع في الجواب، فلك أن تستعين بأي أحد.

عاد الشيخ أدراجه ليصلح من شأنه، فغسل ثوبه وأزال التراب عن ذقنه، وعمل ليلا ونهارا على حل اللغز يغزل ثم ينقض عهنه،  وما استطاع اخفاء شرود ذهنه.

فرض الشيخ على نفسه الحجر في بيته و لم يغادر المحل، يفكر ويقدر لكنه لم يهتد إلى الحل، فأسرّ أمره إلى مستشاره المبجل، الذي ذكره أن الملح مادة يذرونها كي لا يجيف اللحم، ليحفظوا ما زاد عن الطبخ والشواء على النار و الفحم.

وأضاف: يا شيخ، إنما أرادت البدوية الحرة أن تكسبك، لا أن تخسرك، فتزيد إلى أعدائها وأهلها عدوا بحجمك ومقامك، وتحفظ بعلها في غيابه وتسترك بأن لا يبلغه فعلك و كلامك، وهي تشير إلى قول الشاعر -أمير أهل الحديث- أبو سفيان الثوري: 

يا شيوخ العُرب يا ملح البلد *** من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد ؟!

فهي تقصد إن الرجل من القبيلة إذا فسد أصلحه شيخ القبيلة كما يصلح الملحُ اللحم ! فمن يصلح الشيخ إذا الشيخ فسد ؟!

 ثم أسرها في نفسه و أنشد، 

ما أتعس الأجداد من الوالد إلى الولد، ويا أسفي على الديار وأهلها والبلد، ويا قومي حذاري فإن الملح قد فسد. !

وزعموا أن هذه الإجابة أيقظت في شيخه ضميره النائم، وقلبه الهائم، وعقله الظالم، وأصابه الخجل الشديد من فعلته الشنعاء، وملأه الندم على ما كان منه من المكائد والمفاسد !

وقال:  أصبت كبد الحقيقة أيها لمستشار، وكي لا تلصق بي الفعلة وعلي تسجل، سنشيع أنك أنت من راود الفاتنة الساحرة، ! لتستر عليَّ زلتي سترك الله في الدنيا والآخرة !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق