السبت، 9 يناير 2010

الــلَّـقـطة بعفاصها ووكائها (*)

بقلم: مسعود جبارة.

ذات يوم سبت من أواخر فصل الخريف، انتهت الدروس في المدرسة الإعدادية ظهرا كما نهاية كل أسبوع. توجه أحد التلاميذ الى محطة الحافلات بوسط المدينة ليركب إحداها عائدا الى قريتهم التي تبعد حوالي العشرين كيلومترا. بعد عناء و مكابدة يكاد يتعود عليهما في كل مرة، تمكن من حجز مقعد له رغم أن الزحام في المحطة كان على أشده و الأولوية في الركوب للذين يسافرون مباشرة الى المدينة التالية، مما يضطر الكثيرين من سكان القرى الوسطى الى شراء التذكرة كاملة، بمعلوم السفر بين المدينتين حتى إذا ما اعتلى الحافلة وقارب الوصول الى موطنه أو مقصده كشف عن نيته المبيتة و أغرق في الإلحاح على السائق بالتوقف في المكان الذي يريد. يبلغ حد الإحتجاج الشديد حينا وينزل الى التوسل حتى التذلل أحيانا فيرق لحاله تارة أو يرضخ لمطلبه مرغما تارة أخرى.

أنجز المهمة بنجاح حينما سل نفسه بين الركاب كعود الثقاب من علبة الكبريت حتى وصل الى السائق و أقنعه بالنزول عند رغبته والتوقف في المكان الذي حدده ثم واصل بعدها السير راجلا عبر مسلك فلاحي كان خطه برجليه الصغيرتين طوال أيام سنوات التعليم الإبتدائي ذهابا و إيابا بين المدرسة و منزل العائلة. مع الأيام، كثرت السيقان التي تغدو و تروح فتطورت الطريق من مسلك منفرد للراجلين و الراكبين على الحمير ثم على الدراجات العادية قبل أن يصبح مزدوجا مع انتشار العربات ذات العجلتين و التي تجرها البغال أو الحمير...
كان الولد يحث الخطى شوقا للقاء الوالدين و بقية الأهل بعد غياب دام شهرين متتاليين في المبيت الداخلي للمعهد الذي لا تسمح قوانينه بالخروج و مغادرته إلا مرة كل شهر ولمدة تقتصر على إجازة نهاية الأسبوع. غير أنه في المرة السابقة استوجبت الإحتفالات الرسمية التي أقيمت بمناسبة زيارة رئيس دولة مجاورة لمدينتهم، منع التلاميذ من العودة الشهرية الى الأهل وحيث اقتضت الشهامة و الكرم العربي أن تكون الأولوية للإحتفاء بالضيف.

كان يحث الخطى شارد الذهن مشوش الأفكار متعبا شيئا ما من الإجهاد الذي ينتابه نهاية كل أسبوع تخللته إمتحانات.
فجأة وقعت عيناه على حافظة نقود ملقاة أمامه. انحنى و التقطها . ما بداخلها يا ترى ؟ هل تخلص منها صاحبها بعد أن مل من حملها خاوية أم و قعت منه ذات غفلة بما حوت من أوراق ثبوتية و ما ملك من أوراق نقدية؟ كلها تساؤلات جالت بإلحاح بخاطره و هو يمسكها بين يديه و يقيس سمكها. لكن لمن هي إذا؟ هو يعرف أغلب مستعملي هذه الطريق. إذ لا يعدو أن يكونوا من الأقارب و الجيران فنادرا جدا أن يمر من هنا عابر سبيل. لذلك قرر أن يتجاهل الحاح النفس الأمارة و إغراءات الوسواس الخناس.

وصل الى المنزل بعد العصر بوقت وقد مالت الشمس الى الغروب. احتضنته أمه و عانقه والده ثم سلم على بقية الأهل و الأعمام. جلس الى جانب أبيه يتبادلان أطراف الحديث. هذا يسأل عن أحوال الدراسة و نتائج الإمتحانات و الآخر عن أخبارالأقارب و ما إستجد بعد زيارته السابقه ثم أدخل يده في جيبه و أخرج اللقيطة و قدمها لوالده. نظر اليها ، تفرس فيها برهة ثم أشار عليه بفتحها و أسارير وجهه تكاد تفصح عن تعرفه على صاحبها.


هذا ما زادته تأكيدا بطاقة الهوية التي علتها الصورة الشخصية لجارهم "بلقاسم". كان رجلا ذا عيال، فقير الحال كأغلب سكان الأرياف في تلك المناطق التي تعتمد الرعي و بعض الزراعة البعلية عندما تجود السماء بشيء من القطر. حوت المحفظة الى جانب ما حوت من الأوراق العائلية الخاصة كذلك مبلغا ماليا و إن لم يحدده بدقة غير أنه لا يبدو زهيدا مقارنة بمعدل المداخيل لسكان تلك القرية الريفية. لقد تسوق اليوم العم "بلقاسم" و باع خروفين له كان يرعاهما منذ مدة و يسمنهما لموسم عيد الإضحى حيث يكثرالطلب على الأغنام عموما و على ذكورها خاصة وترتفع أسعارها الى مبالغ مشطة.
أقاما صلاة المغرب جماعة ثم قال الأب: انطلق اليه با بنيَ في الحال لعله يكون الآن في وضع لا يحسد عليه من القلق و الحزن و في حيرة من أمره و ما يجب أن يفعل. كيف سيبيت المسكين ليلته هذه في انتظار طلوع شمس الغد كي يعود للقرية ليذيع الخبر بين الناس و يعلن عن مفقوداته عسى أن تكون وقعت بيد أمينة و عفيفة فتعيدها له.
انطلق من حينه نزولا عند رغبة والده و تعاطفا هع الرجل الملهوف رغم الظلام الذي يطبق على المكان رويدا رويدا. أطلق ساقيه النحيفتين الى الريح، كي يتناسى القشعريرة التي أحس بها وهو يقطع الوادي السحيق نحو مسكن متواضع من غرفة واحدة أمامها كوخ صغير توقد فيه نار عليها قدر تلفحهه بألسنتها من جنباته.

زوجة العم "بلقاسم" تغدو و تروح تسعى جادة في تحضير العشاء لأفراد عائلتها و أولادها يتضاغون بينما يجلس هو و بيده مسباحه يراقب الشفق الأحمر في انتظار صلاة العشاء. قام من مكانه مستقبلا و مسلما بحرارة على هذا الضيف الذي لا يكاد يتبينه و قد فاجأه قدومه في وقت غير متوقع. كان سبقه اليه جرو كلب شديد الحرص على القيام بواجبه على أتمه في الذود عن الحياض و نهرالغرباء و النهوض بمهمته الإعلامية. عرف بالوفاء الشديد لسيده حيث لم يسجل عليه يوما أن تخلف أو تقاعس عن المهام التى رباه عليها و بالدقة المطلوبة في نقل المعلومة إذ لا ينبىء إلا بالخبر اليقين لأنه من سلالة توارثت هذه الصفات كابرا عن كابر.

إستقبل العم "بلقاسم" ضيفه و في داخله سيل من التساؤلات يخفيها بإعادة تكرار التحية والترحاب و السؤال عن الأحوال على عادة الناس هناك. انعقدت الألسنة بعدها برهة و عم السكون المكان. الرجل غمرته الحيرةعن سبب مثل هذه الزيارة الطارئة من شخص هو ضيف أصلا حتى على أهله و والديه و أحتار أكثرعن كيفية قيامه بواجب الضيافة في هذا الوقت المتأخر.أما الولد فصمت يبحث عن المدخل المناسب لطرح الموضوع. لقد ظهر له جليا من سلوك العائلة أن الرجل لم ينتبه بعد الى فقدانه لحافظة نقوده. كان المدخل لاعادة إطلاق الحديث بين الطرفين هو تدخل المرأة تعرض على الجمع الجلوس الى العشاء حول ما جادت به قدرها و إن لم يكن في مقام الضيف المبجل ومكانته العلمية كما علقت. سنحت فرصة التعرض لطلب العلم للقادم من أن يبدأ برواية المتاعب التي يتعرض لها كلما هم بزيارة الأهل فضلا عن مصاعب الدراسة و الإقامة.
لقد تم الحجر و التحفظ على كل الطلاب الشهر الماضي و منعهم من السفر لزيارة ذويهم للحاجة الماسة لهم كي يصطفوا على حافتي الشوارع و لأكفهم الصغيرة كي تقوم بمهمة التصفيق و الترحيب بالزائر الكبير. و أضاف أن سفرة اليوم كانت كالعادة قصة أخرى من العذاب مع وسائل النقل. غير أن اليسر لا يتأخر كثيرا بعد العسر. عندها تدخل العم سائلا:ومالذي حدث لك اليوم يا بُنيَّ وشرح صدرك؟. فأخرج الولد المحفظة من جيبه و أشهرها قائلا: هذا ما جادت به الأقدارعلي و أنا في طريق العودة يا عماه.


شخصت عينا الشيخ وهو لا يكاد يتبين ما بيد الولد. أطلق تنهيدة طويلة أراحته من النفس الذي إنحبس في داخله لبرهة من الزمن و صاح و هو يكاد يبتلعها بعينيه: كأنها هي بعفاصها و وكائها ! ثم اطلق إبتسامة محاولا إخفاء الدهشة البادية على وجهه كلما أرتفعت السنة اللهب لتزيد في إنارة المكان و تطلق شيئا من الدفء على الحاضرين. شعر بالحرج و حاول أن يكتم مشاعره غير أنه واصل مرغما يسلط النظر الى المحفظة وكأنه يتفحصها بالأشعة الصينية أو كأنه يستحثه أن لا يتأخر في تقديمها له ليتأكد أن كل محتوياتها لا تزال بداخلها.
هل افتقدت شيئا اليوم يا عم ؟ رد بالإشارة نافيا و قد ترقرقت الدموع من عينيه و خنقته العبرات قبل أن يحتضن ضيفه فتنفك عقدة لسانه و ينطلق بالدعاء له بكل خير.
استلم أمانته و رغم الحاح الولد، رفض أن يتأكد من المبلغ المالي الذي بداخلها لأن ذلك يعتبر شكلا من إظهارالثقة المطلقة و تعبيرا عن التقدير لحفظ الأمانة و رعايتها و غير ذلك يعد عيبا كبيرا في عرفهم. و في المقابل ألح عليه بأن يمد يده الى الصحفة و تناول العشاء معهم. غير أنه في الحقيقة و في ذلك الظرف المليء بالمشاعر الجياشة لا النفس تشتهي الأكل و لا الحلقوم على إستعداد للقيام بوظيفة البلع.
لإنقاذ الموقف، عبر الولد عن رغبته في الإنصراف بعد عنت هذا اليوم الطويل فكان رد العم بلقاسم أن استأذنه برهة و عاد ومعه كتاب. أهداه له و هو يكرر اعتذاره أن لم يستطع إكرام ضيفه بما يليق و ما هو أهل له. أما الطرف المقابل فكانت تلك الهدية مفاجأة سارة حقا. كان الكتاب يروي شجاعة الإمام علي كرم الله وجهه و بطولته عبر حكايته مع رأس الغول. كان الولد في سن يبحث عن النموذج الذي يتبعه و عن القدوة التي يحتذى بها، فعرف من خلال القصة رغم طابع الخرافة التي بها، أن هناك أسوة أحسن مما عرف الناس في هذا الزمان من نجوم الكرة و مشاهير الفن الذين خطفوا القلوب و الألباب.


لكن العملية شكلت أيضا و في الوقت نفسه لغزا محيرا لن يعرف له حلا أبدا. لقد كان الرجل، زيادة على فقره، أميًّا تماما، فكيف وصل الكتاب الى بيته و كيف ارتقى بذوقه و اهتدى الى قيمة هذا النوع من الهدايا نظرا للثقافة السائدة في مثل هذا المجتمع الريفي؟.
--------------------------------------------------------------------
(*) حدثنا يحيى بن يحيى التميمي قال قرأت على مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أنه قال جاء رجل إلى النبي فسأله عن اللقطة، فقال :(اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) قال: فضالة الغنم قال ( لك أو لأخيك أو للذئب ) قال: فضالة الإبل قال:( مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها). قال يحيى أحسب قرأت عفاصها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق