الجمعة، 15 يناير 2010

لقاء طريف مع مدير التوظيف


بقلم: مســـــعود جبـــارة
أكتوبر 1993

طال إنتظاري، و أنا أرقب عقارب الساعة الحائطية تتقدم بتثاقل، أحصي بدِقة كل دَقة من دقاتها كأنها دوي إنفجار يسري في أعماقي و يتناهى صداه الى مسمعي فيزيد من خفقان قلبي. وكلما علت السنة اللهب من جوفي حتى تكاد تخرج عن سيطرة قوات الدفاع الداخلي، إرتفعت حرارتي و جف الريق في فمي، أهَـلْتُ عليه رشفة من شاي بالحليب أو أتبعته بجرعة ماء بارد فيخبو حريقه الى حين. ثم يتكرر هذا التناغم الرتيب مع كل دَقة. أجتهد في تجاهله، أو أقطعه بزحزحة بسيطة لبدني أو لفتة خفيفة الى هنا أو هناك لا مبرر لها.
مرت ساعة ثم أخرى على الموعد. تلوت فيها ما إستحضرت من الآيات الكريمة و الأدعية المأثورة. سئمت كذلك من إستعراض الشريط و مراجعة العديد من لقطاته.
هو شريط أخرجته للمناسبة، يختزل كل ما تعلمته من سنوات الدراسة البعيدة و ما تراكم لدي بعدها من خبرات من خلال التجربة العملية في الفترة المهنية السابقة التي بلغت أحد عشر عاما كاملة. بذلت عصارة جهدي كي أكتب نصه الحواري و أختار مفرداته بعناية فائقة و أخرجت حلقاته بمشاهدها المثيرة و لقطاتها المؤثرة. غير أني كلما طال الإنتظارو أستعرضتها مجددا، عنَّ لي أن أعيد تصنيفها و ترتيب أولوياتها محاولا تحسين العرض بلغة أنقليزية لم تفتك مكانتها بعد في فصاحتي كضرة ثالثة.

كان النادل يرقبني من بعيد حتى يقدم لي كوبا آخر كلما رأى أني أجهزت على آخر جرعة فيه. أصر على ألا يتوقف عن تقديم القهوة حتى أهزَّ الكأس بدل الرأس. كان آسياويا وديعا، أسمر البشرة يميل الى الزرقة. فك أكثر من إرتباط كان في ذهني، أولها بين اللون الإفريقي و الشعر المجعد و ثانيها لما يهز رأسه يمنة و يسرة ليومىء بالموافقة!. كان لا يصرِّف فعلا من لغة الضاد و هو على إستعداد لفعل كل الأضداد.

حسب برنامج المقابلات الذي أعد سلفا، سيكون أول لقاء لي مع كبير مشرفي التوظيف و هو في الأغلب سيكون أشقر نظيف. لذلك كم مرة وقفت أمام المرآة، أستبق ما هو آت، أكرر جملا كنت قد جمعتها في قوالب لغوية جاهزة من مصادر مختلفة و كذلك من بعض الأصدقاء تظهر طريقة الإنقليز في التأدب مع الغرباء ليظهروا خاصة حرارة الإستقبال أو إلقاء التحية و كيفية ردها في الحال.

و أخيرا هلَّ ركب مديرالدائرة بلباس المواطنين الأبيض الناصع و ترجل من سيارة سوداء فاهرة. أسرع النادل يفتح له الباب و يحمل عنه حقيبته، بينما وقفت شقراء تستقبله بابتسامة عريضة ثم تختفي وراءه و في يدها ملف سميك لتعود بعد برهة ترجوني بالتفضل بالدخول.

أدخلني مبتسما إلى مكتبه الفسيح و أعتذر بأدب عن طول التأخير. كان لا يزال يفرك عينيه و قد بدا على محياه الأرق و الإرهاق. و بعد المجاملات الضرورية التي تخللها تقديم شاي خفيف الحمرة و كثير السكر، بدأ يسرد المشاق التي واجهته. لقد وصل لتوه من رحلة عمل قادته إلى أوروبا ثم أمريكا.
غرق الرجل في تفاصيل الأحداث و كأنه يتلذذ بمتاعب الأسفار، و يبتهج بالتطواف في بلاد العم سام، فيسرد آلام الغربة و فراق الأهل كما نردد صباحا كوابيس الليلة الماضية.
كنت أسايره ظاهرا و أعالج بعض الإرتباك في داخلي، أحاول جاهدا إلجام مفعول الأدرينالين اللعين على مشاعري. أظهر رباطة الجأش و أنتصر الى الثقة بالنفس على أي شعور سلبي ضعيف.

لن أنسى تلك المجاملات اللطيفة من محدثي و التي انشرح لها صدري و هو يصف رحلته عبر الأطلسي و يروي ما عايش من طرائف. تبادلنا الملاحظات خاصة و أني فد كنت خضت التجربة نفسها قبله بشهور قليلة فقط. فكان ذلك مدخلا مناسبا كي تنحل عقدي و ينطلق لساني.
توسع الحديث الى مختلف الشجون و أهم ما أسر إلي هو إستغرابه من جهل الأمريكيين لجغرافية المنطقة بأسرها و تركيبتها الجيوسياسية خاصة في زمن ما بعد غزو العراق للكويت و الحروب التي تلته رغم الإهتمام الإعلامي الذي حظيت به المنطقة. فلا هم سمعوا بمؤسسة النفط التي يعمل بها رغم شهرتها و لا حتى بالإمارة-الدولة التي يحمل جنسيتها. لا يعرفون موقعها على الخريطة الا عندما يحدد بالجارة الكبرى أو بالخليج العربي لا عفوا بل الفارسي.
علق مازحا علينا أن نقوم بالإعلانات المدفوعة الأجر للتعريف بالبلاد على طريقة المشروبات الغازية و المربى و نحوهما.!!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق