الجمعة، 15 يناير 2010

ذنْــب بمائة الف صلاة (*)


بقلم: مســــعود جبـــارة
ديسمبر 1998

إنطلق بسيارته صباح يوم الخميس، ومعه كل أفراد عائلته، من إحدى الحواضر الخليجبة الى مدينة الخبر بشرق الجزيرة العربية، و منها جوا الى مطار جدة في غربها، ثم استأجرسيارة الى مكة المكرمة، محرما لأداء العمرة في شهر الصيام.
مرت الرحلة بسلام و بدون مفاجآت. وصل الى الحرم المكي وأقام بأحد الفنادق و أتم على خير مناسكه رغم الزحام الشديد الذي يشهده الحرم نهاية كل أسبوع. حدث عياله أن عمرة في رمضان تعدل حجة مع الرسول الكريم. شعر الجميع بارتياح لا مثيل له و حضروا صلاة الجمعة بالمسجد الحرام.
جاء صباح السبت، جهز نفسه لسفر العودة. ارتدى لباسه التقليدي المميز. إستعد للإنطلاق على الساعة التاسعة صباحا. اتفق مع سائق أجرة ليوصله الى مطار جدة قبل الظهر كي يستقل رحلة الثانية ظهرا المتجهة الى الخبر.
دفع معلوم الإقامة و طلب من مسؤول الإستقبال بالفندق استرجاع الجوازات التي كان تركها أمانة لدى المحاسب. جلس ينتظر عودة هذا الأخير الذي كان قد خرج لقضاء بعض شؤونه و تأخر بعض الشىء . جال ببصره في أنحاء القاعة الفسيحة و توقف عند لوحة كبيرة كتب عليها ".. لا رفث و لا فسوق و لا جدال…" ..
طال الإنتظارفتكررت الاستفسارات والمطالبات حتى كادت تتحول الى احتجاجات و انخرط فيها السائق أيضا. علت الأصوات و كاد البعض يفقد صوابه. إذ لا جواز للسفر بدون جواز السفر. بضاعة كثرعليها الطلب في هذا الزمن و قل العرض. ارتفع اللغط كلما تذكر ارتفاع الثمن و لا أحد تذكر أن يقول: "اللهم إني صائم".
أشارت عقارب الساعة الى الحادية عشر و النصف صباحا عندما تحرك الركب بأعصاب متوترة. ركب الأب في المقعد الأمامي الأيمن الى جوار السائق بعد أن استلم الظرف الذي به كل الجوازات و وضعه في جيب الباب الذي بجانبه. رغم السرعة الجنونية، لم تصل السيارة الى المطار إلا قبل موعد الرحلة بساعة و نيف. أسرع الجميع صوب قاعة الرحيل يجرّون الحقائب المثقلة بالهدايا أو يحملونها على ظهورهم، بينما انشغل رب العائلة بعد دفع الأجرة، بحمل ما ثقل و زنه من الأمتعة بيد و باليد الأخرى وعاء به ماء زمزم.
أمام شبابيك الشرطة، تذكر الظرف، جرى مهرولا الى الخارج ليفاجأ بأن السيارة قد غادرت المكان. لم يكن يعرف لا اسم السائق و لا رقم هاتفه. بالكاد تذكر نوع السيارة وبعضا من أوصاف الرجل. استنجد بأول سائق تاكسي و ترجاه أن يلحقا بصاحبه فرفض فكرة المطاردة. توسل الى غيره. الى ثان و ثالث حتى رق الى حاله أحدهم و انطلقا يبحثان في مواقف التاكسي المعروفة بمدينة جدة عساه يكون قد مر من أحدها قبل العودة الى مكة. لم تسفر الأبحاث عن شيء فقررا أن يواصلا طريقهما الى مكة دون أن يعثرا على أي أثر. جلس الساعات الطويلة في موقف السيارات في انتظار شخص قد لا يأتي. طأطأ ممسكا رأسه بين يديه يفكر بعمق أحيانا و يتحدث الى السواق تارة أخرى…
عاد اليهم مرة أخرى مكررا نفس الأسئلة بعد أن صلى المغرب جماعة في صحن الكعبة قرب المقام الأبراهيمي حيث أخلص النية وألح بالدعاء في ساعة الإفطار. لم تتم فرحته بالفطر الا حين جاءه أحدهم بأولى البشائر بعد أن علم بحكايته. أخبره أن زميلا له سافر الى مطار جدة فقط لأن أحد ركابه كان قد نسي جوازاته في سيارته. شكره و اسأجره و انطلقا للتو يقطعان المسافة الى المطار....

في مطار جدة نودي في مكبر الصوت عن أشخاص بأسمائهم فردا فردا…ثم ركب هؤلاء الرحلة الليلية المتجهة الى مدينة الخبر.. ردد أحدهم مع المسافرين" اللهم هون علينا سفرنا هذا و أطو عنا بعده. .اللهم أنت الصاحب في السفر و الخليفة في المال و الأهل و الولد.."، فتح مصحفه وقرأ قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين...) ثم حولق و حمدل و همهم: بقية ذنوب احتاجت الى تعب و نصب و العودة لإتيان صلاة تعادل مائة الف صلاة!...عساها تقبل وتفتح صفحة جديدة بيضاء ناصعة من سجل الحياة

(*) عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، والصلاة في مسجدي بألف صلاة ، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة رواه الطبراني في الكبير وابن خزيمة في صحيحه ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق