السبت، 9 يناير 2010

سجــــين الحمامــــات

قصة يقلم: مسعود جبارة
أوت 2009

الخضراء بلد جميل بجباله و سهوله، برماله و شواطئه، بمدنه و أريافه، بحقول القمح و واحات الجريد. و كما كل شواطىء البحر الأبيض المتوسط هو جميل التضاريس و معتدل المناخ، و يزيد عنها بموقعه الجغرافي المحوري بينها. لكن هذا السحر الطبيعي و المناظر الخلابه تصبح أجمل بفعل الإنسان و حركته الدؤوبة للبناء و التعمير.
تتالت الحضارات الشهيرة، و شعت على الدنيا قرطاج الفينيقية و الرومانية الى أن ظهرت مع الإسلام القيروان عاصمة لإفريقية، و بنى الفاطميون المهدية قبل العاصمة المصرية. إشتهرت تونس بالزيتونة ضمن سلة المنتوجات الفلاحية، كما عرفت بجامع الزيتونة، ينشر العلم النافع الى كل الأصقاع كأحد أهم المؤسسات الجامعية.
الأصل في بلد الزيتونة، أن تكون الأعراض مصونه، لا أن تكون مكارم الأخلاق مدفونه، أو أن يطلب من المرأة خلع حجابها بكل رعونة، والمقصود الحياء و مدلوله، و يحبس في الحمام أهل الشهامة وأصحاب الرجولة.!

وللحجة و التدليل، لكم القصة التالية بالتفاصيل:
الحاج أحمد مواطن تونسي بسيط، في العقد السادس من عمره، و عامل فلاحي يقطن إحدى أرياف البلاد. كل ما يملك بضع شويهات يرعاها، يعتني بها لأوقات الشدة و الضيق و شاحنة صغيرة من نوع "كات كات بيجو"، ألفها و ألفته، فهي الى جانبه في كل أعماله الفلاحية و الرعوية نقلا و تنقلا. ترفض أن تحال الى التقاعد ما دام فيها شيء من طاقة، و ما دام صاحبها قادرا على قيادتها و توجيهها وتحمل مصاريف صيانتها.
كغيره من أهل الريف، يكد كل يوم من الصباح الى المساء سعيا وراء طلب الرزق الحلال و القيام بشؤون عياله. اجتهد ما استطاع خلال السنوات الماضية في توفير المال اللازم لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام.
أخيرا، تحققت له هذه الأمنية في العام الماضي بعد محاولات ثلاث مخيبة للآمال مع نظام القرعة المعتمد لإختيار صاحب الحظ لزيارة البقاع المقدسة، و منذئذ أصبح أكثر إلتزاما على أداء واجباته الدينية و منها الصلاة في أوقاتها.

حل شهر شعبان وإقتربت المواسم و الأعياد لهذا العام، بقرب حلول شهر رمضان الكريم ثم الأعياد و اقترانها بالعودة الى المدارس و المصاريف التي تتطلبها. و إذ كان له خروفان يرعاهما لهذه المناسبة، قرر أن الوقت قد حان لبيعهما و الإستفادة من ثمنهما في تدبير شؤونه. فأدلج بهما ذات يوم الى السوق الأسبوعي بالمدينة المجاورة على متن شاحنته.
توضأ و انطلق لأن الوقت لم يزل مبكرا لأداء الصلاة. في طريقه الى المدينة، استوقفه شخص يبغي اللحاق بقطار السابعة صباحا و السفر الى العاصمة. وصلا الى سوق الماشية و قد بدأ يتوافد اليه الباعة و التجار و خاصة الجزارون. أنزل الخروفين من الشاحنة و راح يقدر وزنهما، يتلمس الظهر لتقدير درجة سمنتها و يفتح الأفواه لتكشف عن أسنان تبرهن عن صغر السن، ممنيا نفسه بسعر مجز و ربح وفير.

بسرعة، انتبه أن وقت الصلاة قد حان، و لما كان صاحبه لم يزل الى جانبه، استأذنه أن يبقى مع الخروفين حتى يعود من أداء الصلاة جماعة في أحد المساجد. ركب سيارته و بحث عن أول مسجد، غير أن أنوارالمئذنة أطفئت إيذانا بدخول الوقت و حضور الصلاة كما هو متعارف عليه، فواصل الى المسجد الذي يليه غير أن المصلين و هم بضع شيوخ كانوا قد فرغوا لتوهم من صلاة الجماعة. في السنوات الأخيرة، عادة ما تكون الصلاة خفيفة خاصة يوم السوق الأسبوعي، فيقرأ الإمام بقصار السور التي لا يجيد حفظ سواها و يغادر مكانه بسرعة دون القراءة الجماعية للمعقبات و الأدعية.

انزوى الحاج احمد في ناحية من صحن الجامع و صلى السنة و الفرض و لما سلم و فرغ من تسبيحه و أذكاره شعر بضرورة قضاء حاجته البشرية فأسرع الى الحمام التابع لمكان الوضوء خاصة و أنه قد يقضي كل صباح ذلك اليوم في المدينة.
في نفس تلك اللحظات، كان المؤذن يغلق الأبواب، بدءا بقاعة الصلاة فالميضة و أخيرا باب السور الخارجي تطبيقا للتعليمات المشددة التي تسري على الكل دون استثناء الأماكن الريفية أو مراعات المتقدمين في السن الذين يفضلون الإستراحة في المساجد إنتظارا للصلاة التالية ثم انطلق لقضاء شؤونه الخاصة العديدة في يوم السوق الأسبوعي هذا ولم ينتبه أنه ترك وراءه سجينا في حمامات الميضة.
أسلم الحاج احمد أمره لله بعد استنزاف كل محاولات طلب النجدة بالصياح و الطرق العنيف على الباب وبعد أن خارت قواه و خانته كل الحيل لفتح الباب الحديدي من الداخل. فكر في استعمال هاتفه الجوال للإتصال بأي صديق يمكن أن يأتي لنجدته، فأسرعت يداه تبحث عنه في جيوبه غير أنه لم يجده إذ كان تركه في محفظته مع الأوراق الثبوتيه و أخرى بها آيات قرآنيه، لذلك كان يتعمد تركها في السيارة قبل الذهاب الى الخلاء.

أما بالخارج، فكانت السيارة جاثمة ضمن طابور طويل من أشباهها، يستعصي على غير صاحبها التعرف عليها، تستريح من وعثاء السفرالليلي عبر المسالك الفلاحية الوعرة و تنتظر بحيرة و قلق عودة المسجون في أقذر مكان وفي أسوء الظروف.
أما رفيق الحاج احمد لتلك الليلة و في تلك السفرة و حارسه على ممتلكاته في سوق الماشية من بعده و في غيابه الذي بدأ يطول و يطول مع تقدم الوقت، كان يتساءل و يتساءل لكن ما من مجيب و لا يجد هو نفسه جوابا. فأصبحت تتجاذبه الأفكار الغريبة و تساوره الشكوك وتخامره الظنون و تراوده الأهواء.

أضرب الحاج احمد عن الطعام، أكثر من الإحتجاجات، لكن أبواب الحبس الإنفرادي لم تفتح إلا في النزر الأخير من الفترة المقررة أي قبل الأذان بدقائق. خُيٍــر بين أن يلزم الصمت أو يواجه تهم التسلل خلسة والتسور الى داخل المسجد للسرقة. أمام ضيق الإختيارات، فضل أن ينسحب من السجن المظلم الذي كان فيه الى ما هو أكبر و أفسح و رأسه مثقل بما قد يكون حصل في فترة غيابه. هل تسلط أحد اللصوص في فترة الزحام على رفيقة دربه طمعا في ما بداخلها أم قد يكون استغل غفوة الناس الى القيلولة و إختطفها و حول وجهتها لإغتصايها؟ ثم ماذا فعل الشخص الذي إئتمنه على شويهاته و كيف تصرف فيها و هو معذور على كل حال؟ هل تسبب في تأخيره عن سفره و تعطيله عن قضاء شؤونه؟ ربما يكون جر له متاعب لا أول لها و لا آخر في حين لا ناقة له ولا جمل !
بينما كانت رجلاه تحملانه الى غير مقصد، تزاحمت هذه الأفكار في رأسه فأنسته نفسه و اختلطت عليه السبل و حار أي وجهة عليه أن يؤمها أولا. صلاة الظهر فرض و قد دخل وقته غير أنه سيلاقي المؤذن السجان هناك أم يسرع الى السيارة رفيقته و أعز ما يملك في هذه الدنيا أم يتجه الى الشويهات و حارسها و أداء حق الرجل عليه ؟....
على نحو ما، حاول الحاج احمد التجاوز و طي هذه الصفحة من تجاربه الحياتية غير أن المتاعب لم تنته عند هذا الحد. فقد راجت قصته بين الناس بعد أن حدث بها زوجته و أهله مضطرا غير مختار ليبرر عوزه و سوء حاله بعد ضياع كل أمواله.
زاره العمدة مرات و مرات مصحوبا بأعوانه ومرفوقا بانذارات التهديد و الوعيد و تؤاخذه بتهمة تشويه سمعة مؤسسة مقدسة وأصحاب الأيادي النظيفة القائمين عليها.
فالمطلوب غض الطرف عن ما سبق و فات، بل حتى ما هو قادم و آت، و أن يبقى هؤلاء فوق الشبهات، و فضلهم يجب أن يتردد دوما على كل الشفاه و الوسائط، تلهج به الألسن و الأقلام بمن فيهم من حبس في محل الغائط.؟ أ هكذا نثبت حبنا للأوطان و الخرائط !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق