السبت، 9 يناير 2010

فيها مآرب أخرى

بقلم: مسعود جبارة

قالت محدثتي: عجبت لولد آدم و حوى، من ذكر و أنثى، كيف يكرهني صغيرا، و يحرص على كسب ودي بل و ملازمتي كبيرا. لا ذنب لي إن ارتعدت الفرائس، أو بكت في خدرها العرائس، إن ظهرت بيد متجبر طاغية، أو مع أحد من الشرطة و الزبانيه. من لوّح بي فتلك علامة ضعفه، بل و قِصر حجته و دنوّ حتفه، و من استعان بي فعلامة شيبته و وهنه.

أظهر لي العرب، كثيرا من الود و الحب، و كل الإحترام و الولاء، إذ جعلوا من صورتي أول حروف الهجاء. ابتدئت العديد من سور القرآن بألف لام، و كذلك لتعريف الإسم من الكلام. فإذا لا لوم و لا ملام، أن يستعملوا صورتي أيضا لأول الأرقام!

أنا أصلا من الخشب، و كذا عرفني العرب، لكن قد أفاجئكم بالقول، أني جميلة إن صنِّعت من مواد البترول. فتحولت مع تطور البشرية، من ريفية الى حضرية. لقد كنت لموسى معجزة و آية، و لي مع كل راع حكاية.
و قبل أن يشتد بي الغضب، على من لم يتعرف بعد على اسمي و لا اللقب، أضيف له بعض التفاصيل، عله يجد فيها سهولة التحصيل، فتغنيه عن التخمين و التحليل. فانتبهوا لقصة صديقي الراعي، و هو يصفني من ساقي الى ذراعي.
------------------------------
فضّل أن تكون صديقته من صنع يديه، و من شجر السدر الشوكي المعروف بصلابته. قطع الجذع و اختار بعناية طوله الذي يتفق و طول قامته، و سمكه الذي يتناسب مع راحة يده. حذق ليّ طرف العود بإتقان، ثناه ليأخذ الشكل المعقف الذي يحبذ دون شروخ أو كسور، ثم قام بإحمائه على نار هادئة حتى جف ماؤه و قويت قامته. فلما استوت بساقها الطويلة و قدها الممشوق، فك قيدها، و سلخ جلدها الأسمر، قلّم شوكها و أذهب عنها كل أذى، حتى صارت بيضاء ناصعة، تسر الناظرين، يضمها اليه من غير سوء.
هزها كأنه يزنها، و رفعها الى أعلى حتى تجاوزت هامته، ثم دفعها في حركة دائرية خلصتها من كل قيد، فحلقت في الفضاء، سعيدة بالطيران، ثم رجعت لترتكز في دورانها على إبهامه، فيدغدغها بسبابته تارة، و يهمزها بخنصره تارة أخرى، كأنما يستحثها لتزيد من سرعتها و من روعة عروضها.
تمايل معها بجسمه النحيف، ثم هزّ كتفيه هزّا خفيفا لتزداد نشوة بانسجامه مع حركاتها و تنتقل برشاقة من يمناه الى يسراه، كالفراشة تحوم حول زهراتها. قرر أن ينهي العرض عند هذا الحد، فأنزلها و أنفاسه ترتفع لهيثا و قلبه يزداد دقّا. توكأ عليها كأنما ليخفي تعبه، فوقفت لجانبه و سندته، و لم يسمع لها تأوّها و لا أنينا. بدت عليه علامات الإستبشار و الحبور، بصويحبته الجديدة. تهللت أسارير وجهه، بعد إنجاز المهمة بنجاح، فأغدق عليها من كرمه، و ألبسها قصبة حديدية لتنتعلها، و أنبوبا مطاطيا اتخذته قفازا. إطمأن اليها و الى صلابتها، فاصطحبها معه أينما توجه، و خاصة في رعيه يهش بها على غنمه. تطورت علاقته بها حتى إئتمنها على ثروته و حساباته، إذ خط عليها رموزا بعدد شياهه، فبدت كالوشم في ظاهر اليد، يعود اليها عند كل جرد، أو أخطأ في السرد، إذا افتقد شاة، أو شك في العدد.

تتحول وظيفتها أحيانا الى أداة تأديب، لطفل يرفض الإلتزام بالآداب أو القيام بما يكلف من واجبات، فيلوّح بها للتهديد أو يستعملها للتعنيف؛ لصد كلب مسعور يأبى أن يتركه و شأنه، أو لفك إشتباك قد يحصل بين شاتين حول وجبة دسمة، أو إن خرجت عن الصف شاردة أو تجاوزت الحدود لتقع في المحارم كلما حام القطيع حول الحمى من الزروع و الأشجار المثمرة.
و إذا حل وقت الصيد، و بانت الفريسة، فتتحفز صاحبته في حركة دائرية حول كتفه، منتشية بالقوة العضلية التي يمدّها بها ذراعه المفتول، قبل أن تنطلق كالرمح نحو هدفه، فقليلا ما تخطىء أرنبا أو لا تصيب يربوعا.
أما إذا استرخى صاحبها يخلد الى الراحة، فتتمدد الى جواره، تؤنسه و تحرسه، حتى إذا ما إقتربت عقرب أو جاءته حية تسعى، استنجد بها، لتقوم بالواجب الدفاعي صدا للأعداء، و بالهجوم قتلا و تنكيلا للمعتدين. و عندما يشتد القيض وقت الهاجرة، فتقف صاحبته شامخة، مرفوعة الهامة، تحمل الأثقال و الأوزار، و توفر الظل و الإستقرار، لمن احتمى بها من الأحرار.
-----------

و أضيف لكم في الأخير، أني دوما في خدمة الضرير، أجنبه كل شيء خطير، أهدي سواء الطريق، و أنجد في لحظات الشدة و الضيق. فمن لم يتعرف الآن عليّ و على شقيقتي، فسأرفع عقيرتي، بقول "العصا لمن عصى"، ثم ليمشي حافيا على الحصى.

فمن لم تنفع معه غريمتي الجزرة، فالجلد بي أولى له من الرمي بالحجرة. و لكم حق التعليق أو حتى التكذيب، فقد سمعت هذا الحد من الخطيب، يقول به و بغيره من "الدرر"، تهديدا لمن لا يعتبر، و أنا بيده فوق المنبر. فهل ستواصلون الخضوع للجلاد، يتحكم فيكم و ينهب ثروات البلاد؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق